- abdrrahimعضو فعال
- :
عدد الرسائل : 320
العمر : 57
تاريخ التسجيل : 26/02/2008
تأملات في غزوة بدر 17 من رمضان
الأربعاء 17 سبتمبر 2008, 00:01
تعتبر
السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبويّةً متكاملة ، لما تحمله بين
ثناياها من الدروس العظيمة والفوائد الجليلة ، التي تلبّي احتياجات الناس
وتحلّ مشاكلهم ، وترسم لهم منهج التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها.
وغزوة
بدر ، هي إحدى الغزوات المليئة بالعظات والعبر ، والمعاني والدلالات ،
فيحسن الوقوف أمام تلك التجربة لإلقاء الضوء على أحداثها واستخراج الفوائد
من بين سطورها .
إن
أبرز ما جاءت به غزوة بدر ، تأكيد مبدأ الشورى ، باعتباره مبدأً من مباديء
الشريعة وأصلاً من أصول الحكم ، وصورةً من صور التعاون على الخير ، يحفظ
توازن المجتمع ، ويجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي ، بما يخدم مصلحة
الجميع .
فرسول
الله – صلى الله عليه وسلم – وهو المؤيّد بالوحي - استشار أصاحبه في تلك
الغزوة أربع مرّات ، فاستشارهم حين الخروج لملاحقة العير ، واستشارهم
عندما علم بخروج قريشٍ للدفاع عن أموالها ، واستشارهم عن أفضل المنازل في
بدر ، واستشارهم في موضوع الأسرى ، وكلّ ذلك ليعلّم الأمة أن تداول أي
فكرة وطرحها للنقاش يسهم في إثرائها وتوسيع أفقها ، ويساعد كذلك على إعطاء
حلول جديدة للنوازل الواقعة .
كما
أقرّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بمبدأ آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه ،
وهو تطبيق المساواة بين الجندي والقائد ، ومشاركته لهم في الظروف المختلفة
، يتّضح ذلك في إصراره عليه الصلاة والسلام على مشاركة أبي لبابة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما في المشي وعدم الاستئثار بالراحلة .
وقد تبيّن بجلاء من خلال هذه الغزوة ، ومن خلال الآيات التي تناولتها ، حقيقة النصر وكونها بيد الخالق سبحانه ، قال تعالى : { وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم }
( الأنفال : 10 ) ، وأن النصر لا يتم إلا باستتمام أسبابه كلها ، فليست
القوة وحدها هي مفتاح النصر ، ولو كانت كذلك لكان النصر من نصيب المشركين
الذين فاقوا الصحابة عددا وعُدّة ، وبذلك نرى أن المسلمين عندما استكملوا
أسباب النصر وأتمّوا شروطه تحقّق لهم النصر في هذه المعركة .
وأسباب
النصر التي جاء التنبيه عليها تتعلّق بتقوى الله عزوجل والطاعة لأوامر
الوحي ، والصبر عند ملاقاة العدو والثبات أثناء المعركة ، وإخلاص النيّة
في القتال ، إضافة إلى ضرورة البعد عن أسباب الشحناء والاختلاف ، وأهمية
الإكثار من ذكر الله عزوجل قبل وأثناء المعركة ، والتأكيد على إعداد
العدّة والأخذ بكافّة الأسباب الممكنة للمواجهة ، والتوكّل على الله عز
وجل بعد الأخذ بكافّة الأسباب الحسّية والمعنوية ، وكل هذه الأسباب
مبثوثة في عدد من الآيات كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } ( الفرقان : 29 ) ، وقوله سبحانه : {
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم
تفلحون ، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن
الله مع الصابرين ، ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس }
( الأنفال : 45-47 ) ، وقوله سبحانه : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } ( الأنفال : 60 ) .
ويأتي
الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى في مقدّم الأسباب المحقّقة للنصر ،
ويظهر أثر ذلك في موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه المعركة
وإلحاحه في الدعاء حتى سقط عنه رداؤه .
وبعد
أن استكمل المسلمون شروط النصر وأسبابه رأينا التدابير الإلهيّة التي
ساقها الله تعالى ، فجاء المدد الإلهيّ بالملائكة لمساندة المؤمنين ، وجاء
التثبيت القلبي الذي رفع من معنويّاتهم ، ونزل المطر ليكون سبباً من أسباب
النصر والتأييد بما حقّقه من أثر في تطهير القلوب والأجساد وتثبيت الأقدام
، وكذلك للنعاس الذي تغشّى المؤمنين قبل المعركة كان له أثره في شعورهم
بالأمن والطمأنينة .
ومن
الفوائد والتوفيقات الإلهية ، تقليل المؤمنين في أعين الكافرين ، لأنه لو
كثّرهم في أنظارهم لعدلوا عن القتال ، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله { ليقضي الله أمرا كان مفعولا }
( الأنفال : 44 ) ، وفي هذه الحالة لن يتأهب المشركون كل التأهب فيستهينوا
بقدرات خصومهم ، وفي المقابل فإن تقليل المشركين في نظر المسلمين مع تواضع
إمكاناتهم وقلّتها أسهم في زيادة ثقتهم بأنفسهم .
كما
جاءت النصوص القرآنيّة المتعلّقة بهذه الغزوة لتلقي الضوء على قضيّة
الغنائم من جميع الجوانب ، مبتدئةً ببيان حقيقة كون المال لله سبحانه
وتعالى ، وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما هو مستخلفٌ عليه ، لا
يحقّ له التصرّف فيه إلا بأمر إلهي ، ونلمح هذا من خلال إضافة الغنائم لله
ورسوله في قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول }
( الأنفال : 1 ) ، ثم جاء توجيه النظر إلى تقوى الله سبحانه وتعالى
والتزام الطاعة ، ونبذ الخلاف والاختلاف ، كالذي حصل في تلك الغزوة .
وفي
إباحة الغنائم بيان لمكانة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – ورحمته بها ،
حيث أباح لها الغنائم لمّا علم عجزها وضعفها ، وقد كانت محرّمة على الأمم
السابقة ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم ، كانت تنزل نارٌ من السماء فتأكلها ) رواه الترمذي .
ثم جاء التفصيل في كيفيّة توزيع الغنائم في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ( الأنفال : 41 ).
ومما
يُستفاد من هذه الغزوة ، أن العدل والتواضع سببان رئيسيّان في محبة الجند
للقائد ، فقد رأينا كيف يدعو النبي – صلى الله عليه وسلم – أحد أفراد
الجيش للاقتصاص منه حين ظنّ بأنّع قد أوجعه وهو يسوّي الصفوف ، فترك ذلك
الموقف أثراً كبيراً في نفس الصحابي .
وقد
حفلت النصوص المتعلّقة بغزوة بدر على الكثير من التقويم والمراجعة
والتصحيح ، والتي تتعلق بنظرتهم إلى الأحداث وتعاملهم مع القضايا التي
واجهوها ، ففي قضيّة الغنائم نجد أن الخطاب القرآني كان صريحاً في معاتبة
المسلمين على النزعة الدنيوية التي بدرت من بعضهم في هذه الغزوة ، قال
تعالى : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم } ( الأنفال : 67 ) ، وفي ذلك درسٌ تربويٌ في سمو الأهداف وعظمة الغايات مهما كانت الأحوال والظروف .
وفي
قضيّة التعامل مع الأسرى وجّه القرآن الكريم النظر إلى وجوب قتل المشركين
وعدم استبقائهم – خصوصاً في المراحل الأولى من المواجهة - حتى تضعف شوكتهم
ويذلّ كبريائهم ، وأن النزعة الرحيمة التي تملّكت مشاعر المسلمين لم تكن
في موضعها .
وفي
سياق الغزوة العديد من المشاهد التي تظهر عقيدة الولاء والبراء ، وتبيّن
أن رابطة الدين فوق رابطة الأخوّة والنسب ، ويتجلّى ذلك في موقف أبي بكر الصديق رضي الله الذي أظهر استعداده لقتل ولده المشرك في ساحة المعركة ، وموقف مصعب بن عمير
رضي الله عنه عندما قال لآسر أخيه " شدّ يديك به ؛ فان أمه ذات متاع
لعلها تفديه منك " ، فقال أخوه : " يا أخي هذه وصاتك بي ؟ " ، فردّ عليه :
" إنه – أي الذي أسرك - أخي دونك " رواه ابن إسحاق وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضيّة الأسرى : " ولكني أرى أن تمكنني من فلان - قريباً لعمر - فأضرب عنقه ، وتمكن علياً رضي الله عنه من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان – أخيه - فيضرب عنقه ؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين ".
وفي إصرار النبي – صلى الله عليه وسلم – على أخذ الفدية كاملة من عمّه العباس درسٌ آخر في عدم المحاباة أو المجاملة لأحدٍ كائناً ما كان ، إذا تعلّقت القضيّة بالدين .
وضرب
النبي – صلى الله عليه وسلم – مثلاً رائعا حينما أبدى استعداده للتضحية
بأقرب الناس إليه ، وذلك عندما اختار من أهله وعمومته للمبارزة.
وتظهر
حنكة النبي – صلى الله عليه وسلم – وذكاؤه حينما استطاع تحديد عدد أفراد
جيش قريش من خلال كلام الأسير ، وهي إشارةٌ أخرى إلى ضرورة جمع المعلومات
وتحليلها لتقدير إمكانيّات العدو .
ويُستفاد
من الغزوة أيضا : أثر ثبات القائد في ثبات جنوده ، خصوصاً إذا كان محبوباً
لديهم ، لأن الجنود في ساعات الخطر تتوجّه أنظارهم مباشرة إلى القادة ،
فإذا رأوا منهم بوادر الثقة والطمأنينة والروح المعنوية العالية أثّر ذلك
في نفسيّات الجنود بلا شك .
وفي اختيار الحباب بن منذر
رضي الله عنه لعين بدر واقتراحه بردم بقيّة الآبار إشارة ذكيّة إلى ضرورة
قطع الإمدادات عن العدو ، فإن ذلك مما يكسر شوكة الكافرين ويصعب المهمة
عليهم .
ونجد في الغزوة أيضا : مراعاة القائد لظروف جنده ، فقد أعذر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عثمان رضي الله عنه لظروف زوجته ، وأعذر حذيفة بن اليمان ووالده رضي الله عنهما وفاءً بوعد قطعوه بعدم المشاركة في قتال كفّار قريش.
وفيها أيضا : ضرورة تقدير القائد للأدوار التي يقوم بها جنوده حينما أعطى أبا لبابة رضي الله عنه جزءاً من الغنيمة لقيامه بمهمة خاصة في بني عوف ، ومثله عبدالله بن أم مكتوم الذي أوكل إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة بالمسلمين .
وفي قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أكثبوكم - يعني غشوكم- فارموهم واستبقوا نبلكم ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم ) رواه البخاري وأبوداود
يظهر حسن التدبير العسكري ، وذلك حينما أمرهم بالدفاع عن بعد برمي السهام
، والاقتصاد في رميها ، وسل السيوف عند تداخل الصفوف فحسب .
تلك
إشاراتُ سريعةٌ لبعض ما تضمّنته غزوة بدر من فوائد ، والحق أن هذه الغزوة
بحاجة إلى وقفات أخرى أكثر عمقاً لبعدها التاريخي وكونها ركيزة دعوية
مهمّة للعلماء والدعاة والمصلحين .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى