- سعيد501عضو ملكي
- :
عدد الرسائل : 2046
العمر : 54
تاريخ التسجيل : 20/12/2007
الجهاد الأكبر
الخميس 30 ديسمبر 2010, 19:09
الجهاد الأكبر
المحامي الشيخ مصطفى ملص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وسلّم تسليماً كثيراً.
يحسب الإنسان أن اللحظة المعاشة هي محور الحياة، لذلك تكون القضية الأهم في أولوياته أن يكسب الحاضر باعتبار أن كسب الحاضر يعطيه أملاً وفرصة لكسب المستقبل إذ إن المستقبل هو الحاضر المأمول.
ولو استطاع الإنسان أن يتجرد من ذاتيته ومن مسألة ربط الأشياء به أي من مسألة جعل نفسه كفرد محور الكون والحياة، لأدرك أنه مجرد نقطة في محيط لا حدود له ولا قرار، وإن فعله الذي يكون عظيماً ومؤثراً بالنسبة إليه أو إلى اللحظة التي يشغلها هو بالنسبة إلى المسار الكبير يختلف كثيراً فلربما كان غير ذي أثر ولربما كان له بعض الأثر.
الفرد والجماعة
ولكن هذه الصورة التي يبدو وكأن المراد منها تقليل قيمة الفرد ونزع الأهمية عنه أو عن أثره، وهذا بالقطع ليس هو المراد، وإنما المراد أمر سنبينه لاحقاً. هذه الصورة هي العامة أو الغالبة، وهناك بالتأكيد في الزمن لحظات قد تحدث فيها حوادث تجعل تلك اللحظة التي هي جزء من الزمن بحجم الزمن كله، بل ربما فاقت أهمية هذه اللحظة، بما احتوته أو بما أحدثته من أثر، الزمن أهمية فصارت مركزه ومحوره، التي يدور بها أو يدور حولها.
وبعض الأفراد ممن ينتمون لهذا الجنس، وهم جزء منه قد ترتفع مكانتهم وتصبح أهميتهم بأهمية الجنس بكل عناصره، نظراً لما يحدثون من أثر نتيجة حركتهم أو فعلهم. والأنبياء هم خير مثال على ذلك في الجنس البشري، وهؤلاء مقطوع بالاعتقاد بهم عند المؤمنين. غير أن هناك أناساً ممن يختلفُ حول قيمتهم وهؤلاء ليسوا بأنبياء ولكن قد يحدثون من الأثر في الحياة ما يخلد دورهم ولحظتهم ويحولهم إلى رموز على مر الأيام والعصور.
قلنا ليس المراد أن نقلّل من قيمة اللحظة أو من أهمية الفرد في اللحظة الزمنية، وإنما المراد الإشارة إلى الإنسان قد يظن أن فعله أو أثره في اللحظة ضئيل وضئيل جداً، وهذا كما أشرنا قد يكون صحيحاً، ولكن إذا ضممنا هذا الجهد إلى جهد آخر سواء كان بحجمه أو أقل أو أكثر، فإن النتيجة المؤكدة أن الحاصل من جمع الجهدين هو أكبر وأكثر أثراً من كل جهد منفصل عن الآخر.
فإذا نظرنا إلى حاصل جهودنا ضمن المسار العام، فسنجد أنه كبير وكبير جداً «المؤمن ضعيف بنفسه قوي بأخيه». أي إن أثر المؤمن بنفسه منفصلاً عن مجموعته ضعيف ولكنه مع الآخر من ذات المجموعة قوي وفاعل وذات أثر أكبر.
وهذا الأمر ينطبق على نواحي الحياة التي تقبل التعاون، دون استثناء.
فإذا استطعنا أن نؤصل لهذا الفهم في أنفسنا، واستطعنا أن نتخذ منه منطلقاً لجميع حركتنا فأي نتائج هي التي نتوصل إليها.
التعاون وبناء الثقة
ولكن هذا الأمر الذي يبدو بسيطاً للوهلة الأولى ليس بهذه السهولة، لأن دونه كل نوازع النفوس وهواجسها ومراراتها وتاريخها، دونه كل الشكوك والقلق والاتهام وسوء الظن والحسابات الصحيحة والخاطئة التي تنتج ما يسمى بعدم الثقة. وعدم الثقة هو المقبرة التي يدفن كل تعاون تحت ترابها، فكيف نفتح في هذا الظلام الدامس والديجور العابس كوة نورٍ نستبصر بها، وفتحة ضوء نخرج من خلالها إلى واحات الانفراج والرؤية الصائبة، والإنسانية التي أرادها اللَّه متعاونة في سبيل الخير والبر والتقوى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» المائدة/2.
إن أهم نصر أو كسب تحققه مجموعة إنسانية هو ثقتها بنفسها، أي ثقة أفرادها بمجموعهم وثقة كل واحد منهم بالأفراد، فتلك هي السبيل التي يتم الوصول بها إلى أسمى الأهداف وأبعدها مهما كان الوصول صعباً ومكلفاً.
نخلص من هذا المدخل لنقرر حقيقة أثبتتها تجارب الحياة الإنسانية على مر العصور أن التعاون بين بني الإنسان هو السبيل الأوحد لحفظ نوعه وبقائه وتطوره، ولوقوفه في وجه كافة الأخطار الطبيعية وغير الطبيعية. وكل مجموعة إنسانية لا تعتمد التعاون الصادق والجهود الصادقة في مسيرتها كمجموعة، فهي حتماً إلى نهاية، وإلى تفرق وزوال.
ويستحضر هنا المثل الذي ضربه النبي صلى اللَّه عليه وسلم لجماعة المؤمنين في تعاونهم وصدقهم ووفائهم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
والحديث الآخر الذي يقول فيه: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً».
التكامل - الصراع
إن هذا الكون يقوم بين عناصره الطبيعية تكامل، أي تقوم عناصره الطبيعية على التكامل والانسجام، فكل العناصر تتكامل فيما بينها لتعطي هذه الصورة الرائعة الجميلة لهذا الكون، الذي أقام اللَّه تبارك وتعالى ميزانه على العدل. «الشمس والقمر بحسبان ء والنجم والشجر يسجدان ء والسماء رفعها ووضع الميزان ء أن لا تطغوا في الميزان ء وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان» الرحمن/5-9.
وهذه الصورة الرائعة لهذا الكون المعجز بكل حركة من حركاته وسكنة من سكناته ليس مجرد صورة يتمتع الرائي بمظهرها، وإنما هي كون مسخر بكل ما أودع فيه من قدرات وإمكانيات ليتكامل مع هذا الإنسان، المخلوق العاقل، وصاحب الإرادة في أداء وظيفة توحيد الخالق المبدع جلّ جلاله، توحيداً يقوم على العلم والمعرفة «فاعلم أنه لا إله إلا اللَّه» محمد/19.
فإذا كان التكامل والانسجام هو سنة اللَّه في كونه، فإن سنته في خلقه من البشر تختلف كل الاختلاف، إذ السُنّة بين بني الإنسان هي الصراع، القائم على التنازع والاختلاف. قال تعالى: «ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن اللَّه ذو فضل على العالمين» البقرة/251، «ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم اللَّه كثيراً ولينصرن اللَّه من ينصره إن اللَّه لقوي عزيز» الحج /40.
فالحركة في بني الإنسان هي حركة مدافعة، فالخير يدفع الشر، أي أهل الخير يدفعون أهل الشر، وأهل الشر يدفعون أهل الخير. وكل فريق يسعى لأن تكون له ولرأيه السيادة والظفر، وهذه سُنّة دائمة في الخلق لا يعقل أن تنتهي أو تتوقف إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها.
فإذا كان الصراع على هذا الحال، فهو ليس محطة في حياة البشر، وإنما هو مسار طويل ومستمر، الناسُ يمثلون محطات عليه، أو يمثلون مراحل تنقضي وتتجدد، وهكذا. وهذا هو المستفاد من سِيَر الأنبياء سلام اللَّه عليهم أجمعين، إذ إن خط الرسالة هو خط واحد، من لدن ادم عليه السلام، وإلى محمد صلى اللَّه عليه وسلم، فالرسل كانوا مراحل على هذا الخط، وكذلك، كان أنصار الضلال والكفر والفساد محطات، أو مراحل على خط الضلال والكفر والفساد.
ونحن اليوم كأمة، أو كأفراد نعتقد أننا على الحق المبين، وأن القضايا التي نسعى لتحقيقها هي قضايا حق، وأن أعداءنا وخصومنا هم على الباطل المطلق، فإن علينا أن ننظر إلى المسألة اخذين بعين الاعتبار أننا محطة على مسار الصراع بين الحق والباطل، فإن نحن حققنا الظفر والفوز فذلك فضل من اللَّه وتكريم لنا، وإذا لم نستطع بلوغ تلك الغاية كأمة أو كأفراد، فإن واجبنا هو استمرار الجهاد والتضحية والبذل والعطاء، قائمين بتكليفنا الذي كلفنا اللَّه تبارك وتعالى به، ليس هذا فحسب بل والعمل على استمرار هذا المفهوم ودفعه وتطويره في الأمة حتى نضمن الاستمرار به في الأجيال التالية. إذا ما عجزنا عن الوصول إلى الانتصار على هذا الباطل والضلال والفساد في الأرض الذي تمثله إسرائيل ومن يقفون وراءها ويشدون من عزيمتها، ويزيدون في قوتها. ولا يقبل منا أن نتخلى عن خطنا ولا أن نتراجع عنه أبداً مهما كانت المتغيرات.
تغير الظروف بين مرحلة وأخرى وأنماط الصراع
إن أنصار الحق يجب عليهم السعي دائماً من أجل نصرة الحق، وهم في سعيهم هذا لن يجدوا الطريق سهلاً معبداً وإنما هو طريق تكتنفه المخاطر والأهوال وتسد مسالكه العقبات الكؤود، ذلك أن أهل الباطل المستفيدين منه يجندون الجنود، ويسخرون الطاقات، ويستفيدون من كل التقنيات والمعارف للدفاع عن باطلهم الذي هو مصلحة دنيوية، أو مؤقتة عندهم، وهم غالباً ما يكونون أقدر على تهيئة الإمكانات والطاقات، والاستفادة منها، لما يتمتعون به من مال وسلطة، ونظراً لميل كثير من الخلق إلى إشباع أهوائهم وشهواتهم وغرائزهم، وغالباً ما يجدون هذا الإشباع ميسوراً وسهلاً لدى أهل الفساد فيميلون إليهم، وينخرطون معهم، فيقوى أهل الباطل بهؤلاء ويكثر سوادهم.
فإذا تفنن أهل الباطل في نصرة باطلهم فكيف يتعاطى أهل الحق مع حقهم؟
مما لا شك فيه أن واجب أهل الحق أيضاً أن يبدعوا في الدفاع عن الحق وفي استغلال كل الظروف والإمكانيات لنصرته وسؤدده وربما تغيرت الظروف بين مرحلة وأخرى من مراحل الصراع، فكيف يتعاطى أهل الحق مع تغير الظروف؟
وربما دخلت على مسألة الصراع تقنيات ووسائل لم تكن معروفة من قبل أو لم تستخدم ولو كانت معروفة. فغيرت أنماط الصراع أو المواجهة فهل يبقى أهل الحق على نمط الصراع القديم المعهود؟ أم يتوجب عليهم أن يطوروا وسائلهم وأدواتهم وأن يغيروا من أنماط الصراع بما يكفل لهم القدرة ليس على الصمود والمواجهة فحسب وإنما أيضاً القدرة على تحقيق النصر وكسب المعركة؟
ليس هذا موقع رد الفعل فحسب وإنما واجبهم بدل أن يكونوا متأثرين بما يحدثه العدو ويدخله من أنماط الصراع، أن يكونوا هم المبدعون في تطوير وسائل الصراع وأدواته وأبوابه، ومفاجأة الأعداء دائماً بما يذهلهم ويفقدهم التوازن، ويخلخل صفهم ويضعف ثقتهم بأنفسهم وبقواتهم.
وبمعنى آخر يجب أن يكونوا في موضع من يحدث الفعل لا في موقع من يصدر ردة الفعل ما أمكنهم ذلك.
الصراع في الماضي والحاضر
إن تطور الزمن وما حصل فيه من تقدم تقني وتكنولوجي وما وصلت إليه ثورة المعلوماتية المعاصرة وتطور وسائل الاتصال والانتقال، والصعود إلى الفضاء، واستخدام الأقمار الاصطناعية والبث الأرضي والفضائي، وصناعة السلاح الفتاك، وتطور العلوم بشكل عام وخصوصاً لناحية علم الجراثيم والأوبئة وما يسمى الحرب البيولوجية، قد أدى كل ذلك إلى تعقيد مسألة الصراع أكثر فأكثر ولم تعد الحروب مواجهة جيش لجيش ولا مقاتل لمقاتل، بل صارت المواجهة بين المتخاصمين بالطرق العسكرية التقليدية هي آخر ضربة توجه في الحرب لبسط السيطرة على الأرض، بعد أن تكون فنون المواجهة الأخرى والضغوط والتقنيات قد أدت دورها وفعلت فعلها، وتركت الخصم كتلة جوفاء تحتاج إلى هزة صغيرة لينهار كما ينهار بناء الفخار غير المتماسك، وربما لا يحتاج إلى الضربة العسكرية التقليدية لتمام السيطرة.
ولا ننسى الإشارة إلى أن أشد أسلحة الحروب والمواجهة في عصرنا الحاضر هي الأسلحة الاقتصادية، وقد أدى استخدام هذا السلاح مع أسلحة أخرى غير تقليدية إلى انهيار أكبر دولة في العالم وهي الاتحاد السوفياتي.
إزاء ذلك كله هل المواجهة ممكنة؟ وهل تستطيع أمتنا مواجهة أعدائها الذين تمرسوا في كل أنواع الحروب قديمها وحديثها؟
سؤال يطرح وربما استسهل البعض جواباً سلبياً بسبب عدم وجود القدرة المتكافئة مع قدرة الخصم.
المقاومة قضية فطرية
إن سنة اللَّه في خلقه واحدة، فليس هناك خلق من خلق اللَّه إلا وقد ركز اللَّه فيه فطرة حماية النفس والدفاع عن الذات. حتى النباتات تدافع عن بقائها بما حباها اللَّه من قدرة التكيف والمقاومة للعوامل والظروف، ومن المعروف علمياً أن النباتات والحيوانات وحتى الجراثيم والفيروسات والميكروبات عندما تتعرض لخطر الإبادة بسبب من الأسباب، فإنها تطور في نفسها أو في بيئتها الوسائل التي تؤمن لها الحماية وتبطل السلاح الذي تواجه به أو الخطر الذي يتهددها، فتكتسب مناعة ضده.
والإنسان بكونه المخلوق العاقل والمدرك والمفكر والذي يختزن في عقله العلوم والمعارف ويقنن الممارسات والتجارب ويحفظ النتائج ويملك القدرة العقلية على القياس والربط والتحليل، فهو أحق وأجدر بأن يدافع عن وجوده واستمراره من أجل حفظ نوعه ومواقعه وما لديه من مكتسبات ومصالح. فمقاومة المخاطر عند الإنسان كما عند غيره من المخلوقات قضية فطرية مركوزة فيه يلجأ إليها تلقائياً للدفاع عن ذاته ومكتسباته.
أما الاستكانة والخنوع والاستسلام للمخاطر والرضى بنتائجها فهو خلاف الطبيعة الإنسانية والفطرة الربانية.
ومهما كان خصمك قوياً فإن واجبك تجاه نفسك وقضاياك أن تفكر وتعمل العقل في الطريقة التي تستطيع بها أن تبطل قوته، وليس هناك قوة إلا ولها وجه إيجابي ووجه سلبي، والقوة الوحيدة التي لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها هي قوة اللَّه عزّ وجلّ، أما المخلوقات من بشر وغيره فيمكن إبطال قوتهم. ومن تعلم فنون القتال يدرك أن كل باب من أبواب المصارعة له باب يرد به عليه ويبطل فاعليته. وكذلك كل علم من العلوم، ولكن لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بالجهاد الأكبر.
مفهوم الجهاد، والجهاد الأكبر
ورد في القران الكريم في كثير من آياته ذكر القتال والأمر به كمثل قوله تعالى: «وقاتلوا في سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن اللَّه لا يحب المعتدين» البقرة/190، وكمثل قوله: «وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة» التوبة/36، وقوله تعالى: «فقاتل في سبيل اللَّه لا تكلف إلا نفسك» النساء/84، وهناك سورة كاملة هي سورة محمد (صلى اللَّه عليه وسلم) تعرف أيضاً باسم سورة القتال.
وورد فيه أيضاً الحديث عن الجهاد في آيات كثيرة كمثل قوله تعالى: «يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم...» التوبة/73، وكقوله تعالى: «اتقوا اللَّه وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون» المائدة/35.
والواضح من استعراض الآيات أن العبارتين ليستا بمعنى واحد. فالقتال له صورة أو صور معروفة ومحددة. أما الجهاد فهو معنى أوسع وأشمل من القتال بكثير فهو يشمل كل جهد يمكن أن يبذل في سبيل اللَّه، لتحقيق أي هدف من أهداف الدعوة إلى اللَّه أو أي أمر من الأمور التي أمر بها تبارك وتعالى أو منع أي أمر نهى عنه. والجهاد يمكن أن يكون بالنفس أي ببذل جهد العقل أو البدن، كما يمكن أن يكون جهاداً ببذل المال أو ما يمكن أن يسمى بمنطوق العصر جهاداً اقتصادياً.
وعليه فإن القتال هو جهاد بالنفس لأن المقاتل يبذل جهداً جسدياً ولا يمنع أن يكون معه بذل للمال. أي قد يجمع المقاتل إلى جهد الجسد بذل المال، ولكن الأصل في القتال جهد الجسد.
ومن هنا فإن كل قتال في سبيل اللَّه جهاد وليس كل جهاد في سبيل اللَّه قتال.
ولقد جرى في عرف العامة من المسلمين أن القتال هو الجهاد في سبيل اللَّه، وكنا نسمع بين الحين والاخر كلاماً لمسؤولين سياسيين أو علماء يدعون إلى إعلان الجهاد ويصفونه بالمقدس ويقصدون بذلك قتال أعداء المسلمين دفاعاً عن الإسلام وحقوق المسلمين.
إن هذا المفهوم الذي حصر الجهاد بالقتال قد أساء إلى مفهوم الجهاد وضيقه أشد تضييق وصرف أذهان العامة والكثيرين عن وجوه كثيرة يمكن لهم من خلالها أن يكونوا مجاهدين في سبيل اللَّه.
عندما عاد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من إحدى المعارك قال لأصحابه: «لقد عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». وفي هذا الحديث توضيح كامل لمعنى الجهاد في الإسلام، فإذا كان القتال جهاداً فهو جهاد أصغر أي محدود وأن السعي من أجل خدمة الإسلام والمجتمع الإسلامي وبناء هذا المجتمع على الأسس الذي جاء بها الإسلام، وحمايته من كل الآفات والأمراض التي تهدده أو تشكل خطراً عليه هو الجهاد الأكبر أي الأوسع والأشمل والذي يأخذ من وقت الأمة وجهدها مساحة أكبر بكثير من مساحة القتال.
أضف إلى ذلك أن القتال الذي هو الجهاد الأصغر هو فرع عن الجهاد الأكبر ويستند عليه، ولا يكون إلا به. فإذا لم يكن هناك مجتمع إسلامي قوي على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعلى صعيد الالتزام الديني يشكل سنداً وداعماً للمقاتلين، فلن يكون من السهل على المقاتلين خوض المعركة وكسبها.
وعلى هذا فإن القتال الذي هو الجهاد الأصغر، في حقيقته، هو ثمرة الجهاد الأكبر جهاد بناء الأمة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.
ونستطيع أيضاً أن نقول إن الجهاد الأكبر هو في الوجوب كالقتال لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولكننا أمام مجتمع إسلامي لا ينظر للأمر مثل هذه النظرة، وقد يعتبر أن بناء المجتمع الإسلامي هو في أحسن صوره وأفضل حالاته واجب كفائي، إن لم نقل إنه أدنى من ذلك بكثير.
فكيف نستطيع أن ننقل هذا المفهوم إلى المجتمع والأمة الإسلامية لتتحول كل الأمة إلى أمة جهاد ومقاومة؟
إن هذا المفهوم لكي يأخذ طريقه إلى المجتمع المسلم يحتاج إلى جملة أمور منها على سبيل المثال:
1- أن يقوم كبار العلماء والفقهاء والمفكرين بالكتابة حول هذا الموضوع؛ موضوع الجهاد الأكبر، بهدف شرحه، وتطويره، وإعطائه الطابع العصري، وتقديم صور ونماذج عنه من واقع الحياة المعاصرة.
2- أن يتحول الموضوع إلى مادة للحديث والخطابة في المساجد وخطب الجمعة وفي الإذاعات والتلفزيونات.
إننا ندرك أن دون نشر فكرة الجهاد الأكبر وجعلها مقبولة وتحويلها إلى فهم عام لدى أبناء الأمة عقبات كثيرة، ولكن لا سبيل إلى التخلي عن هذه الفكرة وعن تنفيذها إذا ما أردنا الانتقال من هذا الواقع المتردي الذي يتحكم فيه حب الشهوات وإطاعة الغرائز في سلوك العامة والخاصة.
إن هذه الأمة الإسلامية، أمة الجهاد والصبر، ولها في سيرة النبي محمد صلى اللَّه عليه واله وسلم وفي سلوك أصحابه وأهل بيته خير دليل على أن عزتها وكرامتها مرهونتان بالجهاد والصبر وشدة التحمل.
وإذا استطعنا أن نقنع الإنسان المسلم بأن يدخل الجهاد ومفهوم الجهاد في كل عمل يعمله، حينئذ نكون قد انتقلنا من حالة الدعة والسكون إلى حالة التحدي والمجابهة مع أعداء هذه الأمة الذين يتحكمون بها من خلال استجابة أبنائها وخضوعهم لشهواتهم. وعندها تصبح مقاومتنا مقاومة شاملة وفاعلة، فلدينا الأبطال المقاومون الذين يضحون بأرواحهم، ولدينا الشعب الذي يقاوم على جبهات الاقتصاد والسياسة والفكر والثقافة.
خاتمة
أردت من خلال الكتابة في هذا الموضوع، موضوع الجهاد الأكبر أن أنبه أمتنا إلى مفهوم وضعه النبي الأكرم صلى اللَّه عليه وسلم، تتحول معه حياة المسلم كلها إلى جهاد، ويتحول كل مسلم إلى مجاهد في كل تفصيل من تفاصيل حياته عندما يضع نصب عينيه أن مسؤوليته الشرعية هي الدعوة إلى الإسلام وحمايته من خطر يتهدده، وحماية أرضه وحقوقه وثرواته أن يطمع فيها طامع أو ينال منها عدوان معتدي.
وها هي قضية فلسطين، ما زالت حية في الأمة رغم مرور أكثر من خمسين سنة على احتلالها وإقامة دولة إسرائيل الغدة السرطانية فوق ترابها، وها هو شعبها يثور وينتفض ويضحي ويستشهد ويبذل الغالي والرخيص من أجل تحريرها واستعادتها. ولكن الأمة تؤتى من مكان آخر، ومن موضع آخر، تؤتى من حاجتها ومن شهواتها ومن خلافات أبنائها، فتتعسر مسيرة التحرير، ويتأخر النصر، لأن عدونا يملك اقتصاداً أقوى من اقتصادنا، وتقدماً علمياً أكبر مما نمتلك جميعاً، وقوة عسكرية تتفوق علينا كماً ونوعاً، ودعماً عالمياً يؤمنه مجموعة من ما يسمى «اللوبيات» الصهيونية في العالم بتأثير ما لديهم من ثروات، وكل صهيوني، بل كل يهودي جندي وعامل من أجل القضية الصهيونية.
ونحن مليار مسلم مشتتو الصفوف مختلفو الأهداف، ثرواتنا منهوبة، وخلافاتنا أكبر مما يجمعنا، وإذا كانت فلسطين هي قضيتنا الجامعة التي لا نختلف على أهميتها وأحقيتها، لكننا مختلفون على كل شيء حولها. فمتى تصبح حياة كل واحد منا حياة جهاداً من أجل فلسطين، من لم يستطع الجهاد بالسلاح والروح جاهد بالمال ومن لم يستطع الجهاد بالمال والسلاح جاهد بالاقتصاد والفكر والسياسة والثقافة، وجاهد شهواته أن تقوده إلى حيث يحب أن يراه أعداؤه وأعداء أمته.
ولا بد هنا من الاستشهاد بما شهدناه من المقاومة الإسلامية في لبنان التي دحرت الجيش الصهيوني وأخرجته من لبنان يجر أذيال الهزيمة. وما كان ذلك ليكون لولا قتال وتضحية بالأرواح والدماء وفلذات الأكباد، وصبر شعب تحمل ما لا يحتمل ولم يتخل عن المقاومين أو ينقلب عليهم، واستطاعت المقاومة أن توجد حداً أدنى من الالتفاف حولها والتأييد لها، فكفل لها ذلك نصراً ما شهده عصر العرب والمسلمين الحديث.
إننا في عصر علينا أن ندرسه جيداً، وأن نعيه جيداً، إنه عصر العلم والتكنولوجيا، والمعلوماتية، عصر وسائل الإعلام، عصر الصوت والصورة، عصر الحروب الاقتصادية، والغزو الفكري والثقافي، عصر غزو النجوم والكواكب. فأين نحن من كل ذلك؟
«إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» ق/37.
المحامي الشيخ مصطفى ملص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وسلّم تسليماً كثيراً.
يحسب الإنسان أن اللحظة المعاشة هي محور الحياة، لذلك تكون القضية الأهم في أولوياته أن يكسب الحاضر باعتبار أن كسب الحاضر يعطيه أملاً وفرصة لكسب المستقبل إذ إن المستقبل هو الحاضر المأمول.
ولو استطاع الإنسان أن يتجرد من ذاتيته ومن مسألة ربط الأشياء به أي من مسألة جعل نفسه كفرد محور الكون والحياة، لأدرك أنه مجرد نقطة في محيط لا حدود له ولا قرار، وإن فعله الذي يكون عظيماً ومؤثراً بالنسبة إليه أو إلى اللحظة التي يشغلها هو بالنسبة إلى المسار الكبير يختلف كثيراً فلربما كان غير ذي أثر ولربما كان له بعض الأثر.
الفرد والجماعة
ولكن هذه الصورة التي يبدو وكأن المراد منها تقليل قيمة الفرد ونزع الأهمية عنه أو عن أثره، وهذا بالقطع ليس هو المراد، وإنما المراد أمر سنبينه لاحقاً. هذه الصورة هي العامة أو الغالبة، وهناك بالتأكيد في الزمن لحظات قد تحدث فيها حوادث تجعل تلك اللحظة التي هي جزء من الزمن بحجم الزمن كله، بل ربما فاقت أهمية هذه اللحظة، بما احتوته أو بما أحدثته من أثر، الزمن أهمية فصارت مركزه ومحوره، التي يدور بها أو يدور حولها.
وبعض الأفراد ممن ينتمون لهذا الجنس، وهم جزء منه قد ترتفع مكانتهم وتصبح أهميتهم بأهمية الجنس بكل عناصره، نظراً لما يحدثون من أثر نتيجة حركتهم أو فعلهم. والأنبياء هم خير مثال على ذلك في الجنس البشري، وهؤلاء مقطوع بالاعتقاد بهم عند المؤمنين. غير أن هناك أناساً ممن يختلفُ حول قيمتهم وهؤلاء ليسوا بأنبياء ولكن قد يحدثون من الأثر في الحياة ما يخلد دورهم ولحظتهم ويحولهم إلى رموز على مر الأيام والعصور.
قلنا ليس المراد أن نقلّل من قيمة اللحظة أو من أهمية الفرد في اللحظة الزمنية، وإنما المراد الإشارة إلى الإنسان قد يظن أن فعله أو أثره في اللحظة ضئيل وضئيل جداً، وهذا كما أشرنا قد يكون صحيحاً، ولكن إذا ضممنا هذا الجهد إلى جهد آخر سواء كان بحجمه أو أقل أو أكثر، فإن النتيجة المؤكدة أن الحاصل من جمع الجهدين هو أكبر وأكثر أثراً من كل جهد منفصل عن الآخر.
فإذا نظرنا إلى حاصل جهودنا ضمن المسار العام، فسنجد أنه كبير وكبير جداً «المؤمن ضعيف بنفسه قوي بأخيه». أي إن أثر المؤمن بنفسه منفصلاً عن مجموعته ضعيف ولكنه مع الآخر من ذات المجموعة قوي وفاعل وذات أثر أكبر.
وهذا الأمر ينطبق على نواحي الحياة التي تقبل التعاون، دون استثناء.
فإذا استطعنا أن نؤصل لهذا الفهم في أنفسنا، واستطعنا أن نتخذ منه منطلقاً لجميع حركتنا فأي نتائج هي التي نتوصل إليها.
التعاون وبناء الثقة
ولكن هذا الأمر الذي يبدو بسيطاً للوهلة الأولى ليس بهذه السهولة، لأن دونه كل نوازع النفوس وهواجسها ومراراتها وتاريخها، دونه كل الشكوك والقلق والاتهام وسوء الظن والحسابات الصحيحة والخاطئة التي تنتج ما يسمى بعدم الثقة. وعدم الثقة هو المقبرة التي يدفن كل تعاون تحت ترابها، فكيف نفتح في هذا الظلام الدامس والديجور العابس كوة نورٍ نستبصر بها، وفتحة ضوء نخرج من خلالها إلى واحات الانفراج والرؤية الصائبة، والإنسانية التي أرادها اللَّه متعاونة في سبيل الخير والبر والتقوى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» المائدة/2.
إن أهم نصر أو كسب تحققه مجموعة إنسانية هو ثقتها بنفسها، أي ثقة أفرادها بمجموعهم وثقة كل واحد منهم بالأفراد، فتلك هي السبيل التي يتم الوصول بها إلى أسمى الأهداف وأبعدها مهما كان الوصول صعباً ومكلفاً.
نخلص من هذا المدخل لنقرر حقيقة أثبتتها تجارب الحياة الإنسانية على مر العصور أن التعاون بين بني الإنسان هو السبيل الأوحد لحفظ نوعه وبقائه وتطوره، ولوقوفه في وجه كافة الأخطار الطبيعية وغير الطبيعية. وكل مجموعة إنسانية لا تعتمد التعاون الصادق والجهود الصادقة في مسيرتها كمجموعة، فهي حتماً إلى نهاية، وإلى تفرق وزوال.
ويستحضر هنا المثل الذي ضربه النبي صلى اللَّه عليه وسلم لجماعة المؤمنين في تعاونهم وصدقهم ووفائهم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
والحديث الآخر الذي يقول فيه: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً».
التكامل - الصراع
إن هذا الكون يقوم بين عناصره الطبيعية تكامل، أي تقوم عناصره الطبيعية على التكامل والانسجام، فكل العناصر تتكامل فيما بينها لتعطي هذه الصورة الرائعة الجميلة لهذا الكون، الذي أقام اللَّه تبارك وتعالى ميزانه على العدل. «الشمس والقمر بحسبان ء والنجم والشجر يسجدان ء والسماء رفعها ووضع الميزان ء أن لا تطغوا في الميزان ء وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان» الرحمن/5-9.
وهذه الصورة الرائعة لهذا الكون المعجز بكل حركة من حركاته وسكنة من سكناته ليس مجرد صورة يتمتع الرائي بمظهرها، وإنما هي كون مسخر بكل ما أودع فيه من قدرات وإمكانيات ليتكامل مع هذا الإنسان، المخلوق العاقل، وصاحب الإرادة في أداء وظيفة توحيد الخالق المبدع جلّ جلاله، توحيداً يقوم على العلم والمعرفة «فاعلم أنه لا إله إلا اللَّه» محمد/19.
فإذا كان التكامل والانسجام هو سنة اللَّه في كونه، فإن سنته في خلقه من البشر تختلف كل الاختلاف، إذ السُنّة بين بني الإنسان هي الصراع، القائم على التنازع والاختلاف. قال تعالى: «ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن اللَّه ذو فضل على العالمين» البقرة/251، «ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم اللَّه كثيراً ولينصرن اللَّه من ينصره إن اللَّه لقوي عزيز» الحج /40.
فالحركة في بني الإنسان هي حركة مدافعة، فالخير يدفع الشر، أي أهل الخير يدفعون أهل الشر، وأهل الشر يدفعون أهل الخير. وكل فريق يسعى لأن تكون له ولرأيه السيادة والظفر، وهذه سُنّة دائمة في الخلق لا يعقل أن تنتهي أو تتوقف إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها.
فإذا كان الصراع على هذا الحال، فهو ليس محطة في حياة البشر، وإنما هو مسار طويل ومستمر، الناسُ يمثلون محطات عليه، أو يمثلون مراحل تنقضي وتتجدد، وهكذا. وهذا هو المستفاد من سِيَر الأنبياء سلام اللَّه عليهم أجمعين، إذ إن خط الرسالة هو خط واحد، من لدن ادم عليه السلام، وإلى محمد صلى اللَّه عليه وسلم، فالرسل كانوا مراحل على هذا الخط، وكذلك، كان أنصار الضلال والكفر والفساد محطات، أو مراحل على خط الضلال والكفر والفساد.
ونحن اليوم كأمة، أو كأفراد نعتقد أننا على الحق المبين، وأن القضايا التي نسعى لتحقيقها هي قضايا حق، وأن أعداءنا وخصومنا هم على الباطل المطلق، فإن علينا أن ننظر إلى المسألة اخذين بعين الاعتبار أننا محطة على مسار الصراع بين الحق والباطل، فإن نحن حققنا الظفر والفوز فذلك فضل من اللَّه وتكريم لنا، وإذا لم نستطع بلوغ تلك الغاية كأمة أو كأفراد، فإن واجبنا هو استمرار الجهاد والتضحية والبذل والعطاء، قائمين بتكليفنا الذي كلفنا اللَّه تبارك وتعالى به، ليس هذا فحسب بل والعمل على استمرار هذا المفهوم ودفعه وتطويره في الأمة حتى نضمن الاستمرار به في الأجيال التالية. إذا ما عجزنا عن الوصول إلى الانتصار على هذا الباطل والضلال والفساد في الأرض الذي تمثله إسرائيل ومن يقفون وراءها ويشدون من عزيمتها، ويزيدون في قوتها. ولا يقبل منا أن نتخلى عن خطنا ولا أن نتراجع عنه أبداً مهما كانت المتغيرات.
تغير الظروف بين مرحلة وأخرى وأنماط الصراع
إن أنصار الحق يجب عليهم السعي دائماً من أجل نصرة الحق، وهم في سعيهم هذا لن يجدوا الطريق سهلاً معبداً وإنما هو طريق تكتنفه المخاطر والأهوال وتسد مسالكه العقبات الكؤود، ذلك أن أهل الباطل المستفيدين منه يجندون الجنود، ويسخرون الطاقات، ويستفيدون من كل التقنيات والمعارف للدفاع عن باطلهم الذي هو مصلحة دنيوية، أو مؤقتة عندهم، وهم غالباً ما يكونون أقدر على تهيئة الإمكانات والطاقات، والاستفادة منها، لما يتمتعون به من مال وسلطة، ونظراً لميل كثير من الخلق إلى إشباع أهوائهم وشهواتهم وغرائزهم، وغالباً ما يجدون هذا الإشباع ميسوراً وسهلاً لدى أهل الفساد فيميلون إليهم، وينخرطون معهم، فيقوى أهل الباطل بهؤلاء ويكثر سوادهم.
فإذا تفنن أهل الباطل في نصرة باطلهم فكيف يتعاطى أهل الحق مع حقهم؟
مما لا شك فيه أن واجب أهل الحق أيضاً أن يبدعوا في الدفاع عن الحق وفي استغلال كل الظروف والإمكانيات لنصرته وسؤدده وربما تغيرت الظروف بين مرحلة وأخرى من مراحل الصراع، فكيف يتعاطى أهل الحق مع تغير الظروف؟
وربما دخلت على مسألة الصراع تقنيات ووسائل لم تكن معروفة من قبل أو لم تستخدم ولو كانت معروفة. فغيرت أنماط الصراع أو المواجهة فهل يبقى أهل الحق على نمط الصراع القديم المعهود؟ أم يتوجب عليهم أن يطوروا وسائلهم وأدواتهم وأن يغيروا من أنماط الصراع بما يكفل لهم القدرة ليس على الصمود والمواجهة فحسب وإنما أيضاً القدرة على تحقيق النصر وكسب المعركة؟
ليس هذا موقع رد الفعل فحسب وإنما واجبهم بدل أن يكونوا متأثرين بما يحدثه العدو ويدخله من أنماط الصراع، أن يكونوا هم المبدعون في تطوير وسائل الصراع وأدواته وأبوابه، ومفاجأة الأعداء دائماً بما يذهلهم ويفقدهم التوازن، ويخلخل صفهم ويضعف ثقتهم بأنفسهم وبقواتهم.
وبمعنى آخر يجب أن يكونوا في موضع من يحدث الفعل لا في موقع من يصدر ردة الفعل ما أمكنهم ذلك.
الصراع في الماضي والحاضر
إن تطور الزمن وما حصل فيه من تقدم تقني وتكنولوجي وما وصلت إليه ثورة المعلوماتية المعاصرة وتطور وسائل الاتصال والانتقال، والصعود إلى الفضاء، واستخدام الأقمار الاصطناعية والبث الأرضي والفضائي، وصناعة السلاح الفتاك، وتطور العلوم بشكل عام وخصوصاً لناحية علم الجراثيم والأوبئة وما يسمى الحرب البيولوجية، قد أدى كل ذلك إلى تعقيد مسألة الصراع أكثر فأكثر ولم تعد الحروب مواجهة جيش لجيش ولا مقاتل لمقاتل، بل صارت المواجهة بين المتخاصمين بالطرق العسكرية التقليدية هي آخر ضربة توجه في الحرب لبسط السيطرة على الأرض، بعد أن تكون فنون المواجهة الأخرى والضغوط والتقنيات قد أدت دورها وفعلت فعلها، وتركت الخصم كتلة جوفاء تحتاج إلى هزة صغيرة لينهار كما ينهار بناء الفخار غير المتماسك، وربما لا يحتاج إلى الضربة العسكرية التقليدية لتمام السيطرة.
ولا ننسى الإشارة إلى أن أشد أسلحة الحروب والمواجهة في عصرنا الحاضر هي الأسلحة الاقتصادية، وقد أدى استخدام هذا السلاح مع أسلحة أخرى غير تقليدية إلى انهيار أكبر دولة في العالم وهي الاتحاد السوفياتي.
إزاء ذلك كله هل المواجهة ممكنة؟ وهل تستطيع أمتنا مواجهة أعدائها الذين تمرسوا في كل أنواع الحروب قديمها وحديثها؟
سؤال يطرح وربما استسهل البعض جواباً سلبياً بسبب عدم وجود القدرة المتكافئة مع قدرة الخصم.
المقاومة قضية فطرية
إن سنة اللَّه في خلقه واحدة، فليس هناك خلق من خلق اللَّه إلا وقد ركز اللَّه فيه فطرة حماية النفس والدفاع عن الذات. حتى النباتات تدافع عن بقائها بما حباها اللَّه من قدرة التكيف والمقاومة للعوامل والظروف، ومن المعروف علمياً أن النباتات والحيوانات وحتى الجراثيم والفيروسات والميكروبات عندما تتعرض لخطر الإبادة بسبب من الأسباب، فإنها تطور في نفسها أو في بيئتها الوسائل التي تؤمن لها الحماية وتبطل السلاح الذي تواجه به أو الخطر الذي يتهددها، فتكتسب مناعة ضده.
والإنسان بكونه المخلوق العاقل والمدرك والمفكر والذي يختزن في عقله العلوم والمعارف ويقنن الممارسات والتجارب ويحفظ النتائج ويملك القدرة العقلية على القياس والربط والتحليل، فهو أحق وأجدر بأن يدافع عن وجوده واستمراره من أجل حفظ نوعه ومواقعه وما لديه من مكتسبات ومصالح. فمقاومة المخاطر عند الإنسان كما عند غيره من المخلوقات قضية فطرية مركوزة فيه يلجأ إليها تلقائياً للدفاع عن ذاته ومكتسباته.
أما الاستكانة والخنوع والاستسلام للمخاطر والرضى بنتائجها فهو خلاف الطبيعة الإنسانية والفطرة الربانية.
ومهما كان خصمك قوياً فإن واجبك تجاه نفسك وقضاياك أن تفكر وتعمل العقل في الطريقة التي تستطيع بها أن تبطل قوته، وليس هناك قوة إلا ولها وجه إيجابي ووجه سلبي، والقوة الوحيدة التي لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها هي قوة اللَّه عزّ وجلّ، أما المخلوقات من بشر وغيره فيمكن إبطال قوتهم. ومن تعلم فنون القتال يدرك أن كل باب من أبواب المصارعة له باب يرد به عليه ويبطل فاعليته. وكذلك كل علم من العلوم، ولكن لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بالجهاد الأكبر.
مفهوم الجهاد، والجهاد الأكبر
ورد في القران الكريم في كثير من آياته ذكر القتال والأمر به كمثل قوله تعالى: «وقاتلوا في سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن اللَّه لا يحب المعتدين» البقرة/190، وكمثل قوله: «وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة» التوبة/36، وقوله تعالى: «فقاتل في سبيل اللَّه لا تكلف إلا نفسك» النساء/84، وهناك سورة كاملة هي سورة محمد (صلى اللَّه عليه وسلم) تعرف أيضاً باسم سورة القتال.
وورد فيه أيضاً الحديث عن الجهاد في آيات كثيرة كمثل قوله تعالى: «يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم...» التوبة/73، وكقوله تعالى: «اتقوا اللَّه وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون» المائدة/35.
والواضح من استعراض الآيات أن العبارتين ليستا بمعنى واحد. فالقتال له صورة أو صور معروفة ومحددة. أما الجهاد فهو معنى أوسع وأشمل من القتال بكثير فهو يشمل كل جهد يمكن أن يبذل في سبيل اللَّه، لتحقيق أي هدف من أهداف الدعوة إلى اللَّه أو أي أمر من الأمور التي أمر بها تبارك وتعالى أو منع أي أمر نهى عنه. والجهاد يمكن أن يكون بالنفس أي ببذل جهد العقل أو البدن، كما يمكن أن يكون جهاداً ببذل المال أو ما يمكن أن يسمى بمنطوق العصر جهاداً اقتصادياً.
وعليه فإن القتال هو جهاد بالنفس لأن المقاتل يبذل جهداً جسدياً ولا يمنع أن يكون معه بذل للمال. أي قد يجمع المقاتل إلى جهد الجسد بذل المال، ولكن الأصل في القتال جهد الجسد.
ومن هنا فإن كل قتال في سبيل اللَّه جهاد وليس كل جهاد في سبيل اللَّه قتال.
ولقد جرى في عرف العامة من المسلمين أن القتال هو الجهاد في سبيل اللَّه، وكنا نسمع بين الحين والاخر كلاماً لمسؤولين سياسيين أو علماء يدعون إلى إعلان الجهاد ويصفونه بالمقدس ويقصدون بذلك قتال أعداء المسلمين دفاعاً عن الإسلام وحقوق المسلمين.
إن هذا المفهوم الذي حصر الجهاد بالقتال قد أساء إلى مفهوم الجهاد وضيقه أشد تضييق وصرف أذهان العامة والكثيرين عن وجوه كثيرة يمكن لهم من خلالها أن يكونوا مجاهدين في سبيل اللَّه.
عندما عاد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من إحدى المعارك قال لأصحابه: «لقد عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». وفي هذا الحديث توضيح كامل لمعنى الجهاد في الإسلام، فإذا كان القتال جهاداً فهو جهاد أصغر أي محدود وأن السعي من أجل خدمة الإسلام والمجتمع الإسلامي وبناء هذا المجتمع على الأسس الذي جاء بها الإسلام، وحمايته من كل الآفات والأمراض التي تهدده أو تشكل خطراً عليه هو الجهاد الأكبر أي الأوسع والأشمل والذي يأخذ من وقت الأمة وجهدها مساحة أكبر بكثير من مساحة القتال.
أضف إلى ذلك أن القتال الذي هو الجهاد الأصغر هو فرع عن الجهاد الأكبر ويستند عليه، ولا يكون إلا به. فإذا لم يكن هناك مجتمع إسلامي قوي على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وعلى صعيد الالتزام الديني يشكل سنداً وداعماً للمقاتلين، فلن يكون من السهل على المقاتلين خوض المعركة وكسبها.
وعلى هذا فإن القتال الذي هو الجهاد الأصغر، في حقيقته، هو ثمرة الجهاد الأكبر جهاد بناء الأمة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.
ونستطيع أيضاً أن نقول إن الجهاد الأكبر هو في الوجوب كالقتال لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولكننا أمام مجتمع إسلامي لا ينظر للأمر مثل هذه النظرة، وقد يعتبر أن بناء المجتمع الإسلامي هو في أحسن صوره وأفضل حالاته واجب كفائي، إن لم نقل إنه أدنى من ذلك بكثير.
فكيف نستطيع أن ننقل هذا المفهوم إلى المجتمع والأمة الإسلامية لتتحول كل الأمة إلى أمة جهاد ومقاومة؟
إن هذا المفهوم لكي يأخذ طريقه إلى المجتمع المسلم يحتاج إلى جملة أمور منها على سبيل المثال:
1- أن يقوم كبار العلماء والفقهاء والمفكرين بالكتابة حول هذا الموضوع؛ موضوع الجهاد الأكبر، بهدف شرحه، وتطويره، وإعطائه الطابع العصري، وتقديم صور ونماذج عنه من واقع الحياة المعاصرة.
2- أن يتحول الموضوع إلى مادة للحديث والخطابة في المساجد وخطب الجمعة وفي الإذاعات والتلفزيونات.
إننا ندرك أن دون نشر فكرة الجهاد الأكبر وجعلها مقبولة وتحويلها إلى فهم عام لدى أبناء الأمة عقبات كثيرة، ولكن لا سبيل إلى التخلي عن هذه الفكرة وعن تنفيذها إذا ما أردنا الانتقال من هذا الواقع المتردي الذي يتحكم فيه حب الشهوات وإطاعة الغرائز في سلوك العامة والخاصة.
إن هذه الأمة الإسلامية، أمة الجهاد والصبر، ولها في سيرة النبي محمد صلى اللَّه عليه واله وسلم وفي سلوك أصحابه وأهل بيته خير دليل على أن عزتها وكرامتها مرهونتان بالجهاد والصبر وشدة التحمل.
وإذا استطعنا أن نقنع الإنسان المسلم بأن يدخل الجهاد ومفهوم الجهاد في كل عمل يعمله، حينئذ نكون قد انتقلنا من حالة الدعة والسكون إلى حالة التحدي والمجابهة مع أعداء هذه الأمة الذين يتحكمون بها من خلال استجابة أبنائها وخضوعهم لشهواتهم. وعندها تصبح مقاومتنا مقاومة شاملة وفاعلة، فلدينا الأبطال المقاومون الذين يضحون بأرواحهم، ولدينا الشعب الذي يقاوم على جبهات الاقتصاد والسياسة والفكر والثقافة.
خاتمة
أردت من خلال الكتابة في هذا الموضوع، موضوع الجهاد الأكبر أن أنبه أمتنا إلى مفهوم وضعه النبي الأكرم صلى اللَّه عليه وسلم، تتحول معه حياة المسلم كلها إلى جهاد، ويتحول كل مسلم إلى مجاهد في كل تفصيل من تفاصيل حياته عندما يضع نصب عينيه أن مسؤوليته الشرعية هي الدعوة إلى الإسلام وحمايته من خطر يتهدده، وحماية أرضه وحقوقه وثرواته أن يطمع فيها طامع أو ينال منها عدوان معتدي.
وها هي قضية فلسطين، ما زالت حية في الأمة رغم مرور أكثر من خمسين سنة على احتلالها وإقامة دولة إسرائيل الغدة السرطانية فوق ترابها، وها هو شعبها يثور وينتفض ويضحي ويستشهد ويبذل الغالي والرخيص من أجل تحريرها واستعادتها. ولكن الأمة تؤتى من مكان آخر، ومن موضع آخر، تؤتى من حاجتها ومن شهواتها ومن خلافات أبنائها، فتتعسر مسيرة التحرير، ويتأخر النصر، لأن عدونا يملك اقتصاداً أقوى من اقتصادنا، وتقدماً علمياً أكبر مما نمتلك جميعاً، وقوة عسكرية تتفوق علينا كماً ونوعاً، ودعماً عالمياً يؤمنه مجموعة من ما يسمى «اللوبيات» الصهيونية في العالم بتأثير ما لديهم من ثروات، وكل صهيوني، بل كل يهودي جندي وعامل من أجل القضية الصهيونية.
ونحن مليار مسلم مشتتو الصفوف مختلفو الأهداف، ثرواتنا منهوبة، وخلافاتنا أكبر مما يجمعنا، وإذا كانت فلسطين هي قضيتنا الجامعة التي لا نختلف على أهميتها وأحقيتها، لكننا مختلفون على كل شيء حولها. فمتى تصبح حياة كل واحد منا حياة جهاداً من أجل فلسطين، من لم يستطع الجهاد بالسلاح والروح جاهد بالمال ومن لم يستطع الجهاد بالمال والسلاح جاهد بالاقتصاد والفكر والسياسة والثقافة، وجاهد شهواته أن تقوده إلى حيث يحب أن يراه أعداؤه وأعداء أمته.
ولا بد هنا من الاستشهاد بما شهدناه من المقاومة الإسلامية في لبنان التي دحرت الجيش الصهيوني وأخرجته من لبنان يجر أذيال الهزيمة. وما كان ذلك ليكون لولا قتال وتضحية بالأرواح والدماء وفلذات الأكباد، وصبر شعب تحمل ما لا يحتمل ولم يتخل عن المقاومين أو ينقلب عليهم، واستطاعت المقاومة أن توجد حداً أدنى من الالتفاف حولها والتأييد لها، فكفل لها ذلك نصراً ما شهده عصر العرب والمسلمين الحديث.
إننا في عصر علينا أن ندرسه جيداً، وأن نعيه جيداً، إنه عصر العلم والتكنولوجيا، والمعلوماتية، عصر وسائل الإعلام، عصر الصوت والصورة، عصر الحروب الاقتصادية، والغزو الفكري والثقافي، عصر غزو النجوم والكواكب. فأين نحن من كل ذلك؟
«إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» ق/37.
رد: الجهاد الأكبر
الإثنين 03 يناير 2011, 17:32
شكراااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
رد: الجهاد الأكبر
الجمعة 27 مايو 2011, 14:04
يسم الله الرحمان الرحيم
بارك الله فيك على هذا المجهود وجزاك الله خيرااا
بارك الله فيكم و في مجهودكم .كما أشكر جميع الاعضاء على التواصل
.وفقكم الله و سدد خطاكم.و الحمد لله لقد صار منتدى الونشريسي من أحسن و
أرقى المنتديات التربوية .و لقد تابعت مسيرته منذ النشئة الى التألق
و
هذه شهادة أن المنتدى يحتوي بين طياته و ثناياه ما ينفع و يفيد.فمزيدا من
الالتفاف نحو هذا المنتدى الذي يستحق المباركة و التشجيع ..
بارك الله فيك على هذا المجهود وجزاك الله خيرااا
بارك الله فيكم و في مجهودكم .كما أشكر جميع الاعضاء على التواصل
.وفقكم الله و سدد خطاكم.و الحمد لله لقد صار منتدى الونشريسي من أحسن و
أرقى المنتديات التربوية .و لقد تابعت مسيرته منذ النشئة الى التألق
و
هذه شهادة أن المنتدى يحتوي بين طياته و ثناياه ما ينفع و يفيد.فمزيدا من
الالتفاف نحو هذا المنتدى الذي يستحق المباركة و التشجيع ..
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى