منتديات الونشريسي التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
دخول
بحـث
نتائج البحث
بحث متقدم
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
11660 المساهمات
3413 المساهمات
3332 المساهمات
3308 المساهمات
2855 المساهمات
2254 المساهمات
2058 المساهمات
2046 المساهمات
1937 المساهمات
1776 المساهمات
تدفق ال RSS

Yahoo! 
MSN 
AOL 
Netvibes 
Bloglines 
كود انت غير مسجل
مرحبا أيها الزائر الكريم, قرائتك لهذه الرسالة... يعني انك غير مسجل لدينا في المنتدى .. اضغط هنا للتسجيل .. ولتمتلك بعدها المزايا الكاملة, وتسعدنا بوجودك
facebook1
iframe
إعلانات تجارية

    لا يوجد حالياً أي إعلان


    اذهب الى الأسفل
    avatar
    سعيد501
    عضو ملكي
    عضو ملكي
      : قراءة في الـكتاب:سَـكينةُ الــروح: صفاء العيش في حُلوِ الأيامِ ومُرِّهَا 15781610
    ذكر
    عدد الرسائل : 2046
    العمر : 53
    تاريخ التسجيل : 20/12/2007
    قراءة في الـكتاب:سَـكينةُ الــروح: صفاء العيش في حُلوِ الأيامِ ومُرِّهَا Aoiss

    قراءة في الـكتاب:سَـكينةُ الــروح: صفاء العيش في حُلوِ الأيامِ ومُرِّهَا Empty قراءة في الـكتاب:سَـكينةُ الــروح: صفاء العيش في حُلوِ الأيامِ ومُرِّهَا

    الأحد 18 سبتمبر 2011, 22:35
    بقلم أحمد الحمدي: ((لتحميل هذه القراءة على جهازك نوع الملف PDF: اضغط هنا))
    ·إِشْـعَاعَـة:
    "اعتادَ رجلٌ أن يقطعَ الشُّجيراتَ الصَّغيرة عندَ طرفِ الغابة ويبيعَها ليعيشَ على ربحٍ متواضع توفره له. في أحد الأيام، خرج عليه نَاسِكٌ من قَلبِ الغابةِ ونصحهُ قائلااِذهَبْ إلى مَكانٍ أعمَق دَاخلَ الغابة!)"[1].
    ترى بعض التقاليد أن الإنسان لا يصبحُ راشدًا حتى ينفتحَ على عَالمَ النَّفس والرُّوح![2]. نعم، هذا ما يُحاول أن يجعله تقليدًا عاديًا لنا في حياتنا اليومية مؤلفُ كتابِسَكِينَةُ الرُّوُح) الـ د.بَيْرَم كَرَسوْ Byram Karasu[3] لتحقيق شروط صفاءِ العيشِ فِي حُلوِ الأيَّام ومُرِّهَا فنحن ندرك "أصالتنا"فقط عندما نوغلُ في عوامقِ أنفسنا وبواسقِ أرواحنا، عندها يكون للسكون مرفأ على شواطئ الروح بظاهراتيتها الآفاقية. والبوابة التي تفضي بنا إلى هذه السكينة(=الطمأنينة)يمكن فتح مغاليقها بواسطة صيغة تجمع بين فهم النفس والروح[4]: تجمع النفس عبر الحب: حب الآخرين، وحب العمل، وحب الانتماء. وتجمع الروح عبر الإيمان: الإيمان بالمقدس، والإيمان بالوحدانية، والإيمان بالتحول، ثم يتسامى كل شيء ليبلغ ذروته في محبة الله والإيمان به.
    المدارك الروحية الوجدانية تتجلى في الحقائق الخُلُقِيَّة بين الإنسان وذاته كما تتجلى بين الإنسان وغيره كل ما في هذا الغير من آفاق مادية شيئية بيوميتها العملية وإِنيَّتِهَا المباشرة. وكل ما علينا هو السُّمو إلى إدراكِ الرَّمزي والروحي في كل ما نسميه بـ"اليومي" في عالم الطبيعيات، هذا الإدراك الذي يجعل من الطَّبيعيات قصدًا وهدفًا في عالم الخُلقيَّات. فيا ترى ما هي دوائر التناغم الجميل بين الطبيعي والخُلقي في رحلة الوجود الإنساني بتشكيلـَتيه الزوجيتين[5]الطبيعية والخُلقية؟ وما هي طبائع هذا التناغم والاندغام والتكامل الصيروري الدائم؟
    1. 1 شطآن الروح في حب الآخرين:
    عندما يحاول شخص خاوي الروح البحث عن توأم نفسه: فإنه لن يجد سوى ذاته! بل حتى علاقة"توأمة النفس"هذه التي يهيم الكثير بحثا في سرابها تنمو مسيرتها مع الأزمات والمحن أكثر مما تنمو مع الحميمية العاطفية العابرة![6]. فالمشاركة الاجتماعية عند البشر تتطلب قدرا من التضحية بالتمركز حول الذات، كما تتطلب الاندماج بالآخرين كجزء من الحياة المشتركة[7] التي هي شرط قيام العمران البشري للإنسان، قيامها السوي.
    حب الذات هو شعور بالتعاطف مع الذات، وهو شعور يختلف تمام الاختلاف مع الشعور المؤذي(بالذال المعجمة) بالتمركز حول الذات والذي هو انشغال كامل بالذات لا يحكمه مبدأسوى النرجسية المرضية. إن استشعار المرء أنه جزء من كل،هو حب للذات يمكن وصفه بالنرجسية الصحية[8]المطلوبة لِرَدِّ الاعتبار لذواتنا حتى يكون لها بريقها الخاص ضمن حُب ذو علاقة تبادلية تكاملية مع كل العالم الحيواتي والجمادي المحيط.
    الإيمان بمبدأ التنوع يتطلب القبول بمبدأ التمايز الكامل[9]: سُئِلَ كونفوشيوس ذات مرة:>هل من الأفضل أن يكون الإنسان محبوبا من جميع أهل القرية؟ فرد قائلا: لا، الأفضل أن يحبه الخيرون في القرية، وأن يكرهه الأشرار فيها!<..فالكمال هو في التنوع. ولكي تكتشف من أمامك على حقيقته لا بد أن تتقبل هذا الشخص على عِلاَّتِهِ. وتبدأ يومك مرددا: اليوم، لن أصدر حكما على أي شيء! متسلحا بـقوة الاعتذار: الاعتذار ينهي الحروب الكبرى بين الدول، فكيف بخلاف عادي بين الأفراد!.
    ليس ثمت ما يسمى بأشخاص أخيار أو أشرار كما هو التصنيف الاختزالي واحدي البعد: هناك أناس يرجح عملهم للخير على الشر وآخرون يرجح عملهم للشر على الخير، فالأمور ليست بيضاء أو سوداء فحسب بل إنها تحتمل خليط البياض والسواد معًا. والكائنات التي تظلها السماء تستطيع رؤية الجمال جمالا فقط لوجود القبح، فالخير موجود لوجود الشر![10].وهناك أمور خَيِّـرَة، سواء أقام بها أشخاص خيرون، أم أشخاص ليسوا بخيرين.
    أن تحب شخصًا ما، لا يعني ذلك الاندماج به إلى حد إنكار الذات Self-annihilation الذي قد يُقَابِلُه الطرف الآخر بإنكار متبادل للذات في لعبة إلتهام نفسي مقيت. يجب أن نعي أن الشيء ذاته لا يتكرر مرتين: فلا يمكن لأحد أن يخوض في مياه النهر ذاته مرتين!كما يؤكد هيراقليطوس، مياه النهر تتدفق وتتغير، والإنسان الذي يخوض في هذا النهر هو أيضا يتغير باستمرار[11].
    في مقابل حب الاستئثار بمن نحب ونقيم معه علاقة يوجد هناك أشخاص لا يستطيعون إقامة علاقات وطيدة مع من حولهم ليس بسبب إعاقة فيزيولوجية-عصبية كالمصابين بالتَّوَحُدAutismكغالب المُبدعين الذين يترافق إبداعهم عادة مع غياب علاقة وطيدة مع الآخرين: لأن الآفاق الشامخة للإبداع تتطلب قضاء فترات طويلة من العزلة ومن التركيز الشديد. الأشخاص المبدعون عادة يندمجون في عملهم، وليس مع شخص آخر. هذا الصنف يُتَسَامَحُ معهُ ما لا يُتَسَامَحُ مع الأول[12].
    الحميمية مع الآخرين لا تتطلب معرفة مطلقة بالذات أو بالآخر: هنالك دوما شيء ما يجعلنا نقاوم الإفراط في سبر الذات. فالناس لا يريدون أن يعرفوا، أو أن يسمحوا لأحد بمعرفة الأسرار التي تقبع في قرارة نفوسهم، إن أفضل مدخل لمعرفة الآخر ليس محاولة السبر، بل في قول يسير:"أنت رائع كما أنت!". فالمعرفة العميقة بالآخر تتطلب ألا نراه بوضوح فالحفاظ على سحر العلاقة يتحقق جزئيا بكبح جماح الرغبة في كشف غوامض الآخرية وكبح فضولنا لاكتشاف الأجزاء المكونة للكل. هناك"أكذوبة" في كل نفس، هذه النفس لا تصبح أبدا كاملة الكمال المطلق. يقول د.ريلنغ في قصةالبطة المتوحشة)[13]: إنه يُعنَى بالحفاظ على أُكذوبة حياته. إذا سلبت شخصا عديا"أُكذوبة حياته"، فإنما تسلبه سعادته أيضا.
    الـغَـيْرَة ليست شعورا مُزعجا إلا أن تترك على غاربها دون ضوابط. إنها شعور إنساني"طبيعي" وهي على هذا النحو، تعتبر إحدى المكونات الأساسية للنفس فتجب رعاية هذا الشعور واستعماله على الوجه الأفضل. وإذا فُقِدَ التمايز والمسافة الفاصلة بين الطرفين يجدان نفسيهما عرضة لحالات متضاربة عنيفة ذات أبعاد أُسطورية[14].
    أن تحب يعني أن تصفح أن تتواصل بالآخرين يعني أن تغفر: لقد أحب الأنبياء الإنسان الخاطئ وسعوا إلى رفعه ما استطاعوا إلى الكمال البشري[15]فالصفح والاستغفار نتحرر بهما من مُحرضات الغضب وفلسفة الكراهية، وننقذ بهما العلاقات الأسرية والفردية والاجتماعية. المفارقة هنا هي أن الشخص الغاضب(غير الصافح) سواء أكان محقا أم لا، هو الأكثر معاناة!. الغضب يؤدي إلى إضعاف المنظومة المناعية داخل الجسم[16]. والشخص الذي يقول:" أنا أغفر، لكنني لن أنسى أبدا" لم يغفر فعلا. النسيان هو الغفران الحقيقي الوحيد والممكن الذي يسمو بصاحبه إلى أعلى المراتب.
    السجين الذي يريد تحرير رفاقه من السجن عليه أن يتحرر هو أولا من أغلاله: إن علاقة الزواج مثلا يجري فيها الارتباط والتمايز في آنٍ معا، ليس بشكل متتالٍ، وإنما بشكل متناغم(=مفهوم السَّكَن القُرآني: يسكن كل منهما للآخر). مطلوبٌ أن نعي جيدا أن الجنس والجمال والثروة هي روابط سريعة الزوال أما الحميمية الأثيرية فتدخل القلوب متجاوزةً حدود الجنس والعمر والثقافة[17].


    1. 2شُطآن الرُّوح في الإيمان بالوَحْدَة:
    مع ضرورة البقاء مع الآخرين شرط قيام الإنسان في عِمارة الأرض إلا أن هذا الوِصال إذا طال مهما كان هؤلاء محبين ورائعين وظُرفاء، يتعارض مع الإيقاع النفسي الحيوي للفرد: يؤكد علم الـكرونوبيولوجيا Chronobiology(بيولوجية الزمن) أن لأجسامنا إيقاعا أو موسيقى داخلية، وهنا لا يقتصر الأمر على استطاعتنا التناغم معها، بل يجب التناغم معها[18].
    إذن هنا يأتي إدراك مفهوم وحالة العزلة في شكلها الإيجابي المتناغم مع كلية ووحدة الحياة: لا تؤدي العزلة إلى تناغم الجسم مع الطبيعة فقط، بل إنها، بالإضافة لذلك تقوي الانتماء إلى وجود أكثر شمولا الأمر الذي يهيئ النفس للاستنارة والتحول/والتسامي الدائم، فكلما ازداد تواصل الفرد مع عالمه الفردي الداخلي، ازدادت قدرته على إنشاء علاقات مع العالم الخارجي. الذين يميلون إلى اعتبار الطبيعة مصدرا للحكمة يعيشون في الغالب حياة ملؤها البهجة والحبور[19]. وَقَفَ المعلم زِنْ أمام تلاميذه لإلقاء موعظة ذات يوم: وفي اللحظة التي هَمَّ فيها بالكلام، غَرَّدَ طَائِر. فقال المعلم:"لقد أُلقِيَت الموعظة"الطبيعة هي معلم طبيعي. ما نحتاجه هو قراءة أسفارها[20].
    وكما يشعر الإنسان بالوحدة عند وجود الآخرين، فإنه يستطيع أن لا يشعر بالوحدة عند غياب الآخرين، فقدرتنا على الانعزال تتيح لنا، في وحدتنا حرية عيش شديدة الخصوصيةLdiosyncratic. إن لم يُنَمِّ الإنسان قدرته على أن يكون مع ذاته، فإن الوحدة تثير في نفسه مشاعر القلق!. اللافت للنظر أن الناس يوجه إليهم النصح كثيرا ألا يظلوا وحدهم وأن يتجنبوا الوحدة بكل وسيلة ممكنة. هذا المفهوم الخاطئ هو الذي يولد إحساسا مقلقا بالتبعية الدائمة للغير[21]. فالإنسان إذا عاش ضمن عائلة أو جو، لا تُحترم فيهما حاجته لحيز خاص به، فإن معاناته في غياب هذا التحيز، قد تأخذ شكل خنق للذات، أو نكران للشخصية personhood أو كما قال ليونارد شينغولد"قتل للنفس"!. الحيز الخاص هو امتداد للذات: إنه استمتاع بالصمت والإحساس بالتناغم الكامل. وفلسفة الحياة الخاصة بالفرد ليست أمرا مجردا، بل عليها أن تخدم الحياة اليومية للفرد. فتسمو بكل ما هو يومي وعادي وطبيعي إلى إيجاد صلة بين حالة الوجود الزائل المؤقت، وبين الحالة الدائمة[22].
    من الوحدة الفردية إلى الوحدة الكونية أيضا تكمن سكينة الروح وتناغمها بمشاعر الرضى والتقدير والتمجيد؛ فعندما نعزو مغزى وجودنا الفردي إلى مرجعية أكبر تمتلئ حياتنا بالعرفان والبهجة[23]. "أن تفكر يعني أن تتجاوز" هذا يعني الإدراك ومن ثم المضي إلى ما وراء حدود التفكير وما يستطيعه العقل، لأن سعينا وراء ما لا تمكن رؤيته، متجاوزين حدود الزمان والمكان والنطاق الذي يطوقنا به العقل، يكشف لنا الوحدة المتناغمة التي تطوقنا بالسكينة[24].
    أيضًا وحدة الزمان والذاكرة الممتدة إلى اللاوعي الذاتي، واللاوعي الجماعي يشكلان سوية اللاوعي الخاص بكل فرد منا[25]:الإنسان الذي لا يلتفت إلى الوراء يحرم نفسه الاستمرار مع الحاضر!.كما أن الملتفت دوما إلى الوراء يحرم نفسه الوصال بالحاضر. نحن بحاجة لماضينا الجماعي ليكون معينا على فهم ماضينا وحاضرنا الفرديين. ففي الماضي مع الحاضر نتحول إلى حلقة في سلسلة متصلة أكثر جلالاً ومهابةً.
    المكان هو الآخريؤدي إلى التناغم مع العالم فالإنسان يحب ترسيخ وجوده في مكان، إنها نزعة إنسانية تشرئب إلى "الشعور بالرسوخ"لتبدأ برحلتها الروحانية إلى الخلود وكل ما هو مطلق، والسبب في هذا الافتقار إلى الأمان هو أننا مكشوفون بالكامل فالفرد محاط بفضاء لا متناهٍ. فما من سبيل لحماية حدودنا سوى الالتحام والشعور بالوحدة(=الصداقة والرعاية)بالعالم. هذا التناغم يعتمد على حُب المحيط الطبيعي. ففي فيزياء الكم Quantum physicsيشير بعض العلماء أن للأشياء عند مستوى حياتنا اليومية مواقع محددة، لكن هذا الموقع ينعدم عند مستوى ما دون الكمي Subquantum فجميع النقاط في الفضاء تصبح مساوية لجميع النقاط الأخرى فيه، وهكذا يصبح الحديث عن أي شيء على أنه مُنفصل عن أي شيء آخر ضربا من العبث![26].

    1. 3 شُطآن الرُّوح في حُب العمل:
    ليس هناك ما يؤدي للشعور بالانقباض أكثر من الكَسَل، وعدم وجود العمل الذي نحب ونعشق، وليس هناك دواء أكثر نجاعة لهذا الكسل من العمل الذي نهوى، عندما يتوفر لك وقت طويل تقضيه مع نفسك، فأنت تواجه خطر تمزيق نفسك إربا إربا![27] إن "أشعة الشمس تصل إلى كل الأمكنة بالتساوي، لكن هذه الأشعة لا تستطيع إحراق العشب الجاف إلا إذا تم تركيزها عبر زجاجة مكبِّرة!"كما يقول المثل القديم.
    يحمل كثير من الأشخاص العاديين أعباء ثقيلة في مكان عملهم، لكن المبدأ يظل نفسه، إنه حب الإنسان لعمله أو ما وراء عمله ذلك الحب والاهتمام يجعل أكثر الأعمال صعوبة تبدو مجزية."إن المنقبين عن الألماس الذين يجرفون أطنانا من الأتربة في سبيل العثور على جوهرة لا تكاد تُرى، لا يُركزون انتباههم على الأتربة وإنما على ألماسة! نحن ننسى هذا المبدأ عندما تبدو حياتنا مليئة بالأتربة أكثر من الجواهر"[28].
    قليلا ما نعي جيدا أن نزعتنا المادية تفتقر للعمق، ففلسفة الاستهلاك تملأ النفس بمشاعر العبث والتفاهة. ليس عيبا أن نمتلك أجهزة كثيرة لكن العيب أن يتحول الاستهلاك إلى فلسفة توجه الحياة وتقوض عملية السعي وراء معانٍ في الحياة أكثر سُموا[29].
    ترتبط حيازة المقتنيات عادةً بمفهوم السَّعادة: فاللهث الاستهلاكي نحو المقتنيات إضافة إلى ما هو موجود بحوزتك لا يمكن أن يحقق لك الرِّضىَ، فما بالك بتحقيق السعادة. حُب الله يشبه إفراغ المنزل حتى يتمكن الضياء من التسلل إليه. فالسعادة عملية طرح. وثقافتنا المعاصرة هي ثقافة العزلة العميقة-إذا استبعدنا الظاهر الخلب- ويعود السبب في ذلك جزئيا إلى أننا نرتبط بالأشياء وننفصل عن الأشخاص كثيرا، عندها لا يمكن لامتلاك الأشياء أن تشعرنا بالاكتفاء الكامل لأن هذه الأشياء في النهاية عاجزة عن ملء الخواء النفسي العميق[30].
    لسنا مضطرين طبعا لأن نصل إلى درجة التطرف كي نعيش حياة ملؤها العاطفة الروحية. بل يجب أن نحقق توازنا. فالإفراط في الارتباط بالأشياء والرغبة فيها هو وحده الذي يتضارب مع التفاني المطلوب من أجل علاقات حميمية وحياة ساكنة الروح[31]. البشر الذين تتمحور هويتهم الذاتية حول العمل/الوظيفة، وبخاصة إذا كان العمل ناجحا، يعتبرون فكرة التقاعد أو الفصل أشبه بالخِصَاء! إن لم نقل بالموت[32]. والسبب هو في فلسفة الربح المطلق الذي يسيطر على ذواتهم.
    الأشخاص الذين يميلون إلى أخذ كل شيء على عاتقهم يشعرون بتعب أكبر ويزيدون من شعور غيرهم بالتعب[33]، لا بد إذن من إشعار الآخرين أنه بالإمكان الاستغناء عنا نسبيا، إن ما نرغب أن نكون عليه ليس بالضرورة هو ما يتوقعه الآخرون منا[34]، يجب علينا أن نتعلم كيف نقول لا! لكن في المقابل لدينا نعم أكبر منها، كما يقول ستيفن كوفي. لقد رفض ذات يوم شاه إيران الذهاب إلى سباق للخيول قائلا:" أنا أعرف أن هناك حصانا يستطيع أن يركض أسرع من حصان آخر!". إنه رَبِحَ القضية عن طريق خسارتها في الظاهر. ليس الأمر بالصعوبة التي تتصورها، لأن ريح العناية الإلهية لا تكف عن الهبوب، وما عليك سور رفع الشِّراع، لكن اِرفعهُ بِحَماس![35].

    1. 4 شُطآن الرُّوح في حُب الانتماء:
    الحاجة للانتماء تضرب جذورها عميقة حيث يكون من المستحيل إشباع هذه الحاجة في الحياة الدنيا. فمشاعر التوق والانتماء المطلقة تعني الشعور بالتناغم مع الكون تناغم اشرئباب إلى المطلق فلا يمكن للشجرة أن تنمو باتجاه الأعلى لتشمخ قبل أن تنمو باتجاه الأسفل[36].وكما قلنا نحن نتوق لملاذ آمن لانتماء محدد الأبعاد هذا الانتماء يحمينا من الشعور بـ"العدمية" باللامتناهي في داخلنا ذلك الإحساس الذي يحمله كل منا بصمت![37]ويمكن اعتبار التعاطف(=مؤشر الانتماء) أقوى العناصر التي تُضفي التماسك على المجتمع الذي يتلاحم نتيجة إدراكه أن معاناته ومساراته ترتبط بشكل وثيق بالمشاعر المماثلة لدى الآخرين[38]. التعاطف هو في ذاته يتسم بالسخاء وذو طبيعة تبادلية، رغم أنه يبدو في الظاهر لا يفيد سوى الشخص المتلقي مباشرة إنه ينطلق من هذه النقطة، لكنه لا ينتهي فيها[39].
    كذلك الانتماء يرتبط بالأهمية الذاتية: لكن إذا كانت الأعمال التي نقوم بها تتجه لخدمة الذات و تبعث في النفس الرضى والقدرة على الأداء، فإن الأعمال التي تتجه لخدمة الآخرين تبعث في النفس شعورا أكثر عمقا بالقوة وبالأهمية وبالسكينة[40].
    إذن العمل لخدمة الآخرين يحيلنا إلى مبدأ "التبادلية" وهو مبدأ يُعتبر من أسس قيام وجودنا[41]، بمعنى أن الفرد فقط عن طريق العيش من أجل الآخرين، يمكن أن يعيش من أجل ذاته، فالتركيز المطلق على فلسفة تعتمد على الذات يتعارض مع الانتماء ومع (الآخرية)؛ لأن المشاركة العاطفية مع الآخرين بخلاف العزلة حتى، تجعل الفرد جزءا أكثر وضوحا في المجموعة وتُشعره أن الأحزان والمسرَّات تصيب جميع الناس[42]. إن الشعور بالانتماء يخفف من الانشغال التام(=نرجسية مَرضِيَّة)بالذات والتمركز حولها، فالانتماء إلى مجتمع يتكون من عناصر مختلفة يتطلب جهدا وعزما لا يستهان بهما. فالانتماء لعائلةٍ تعيشُ بانسجامٍ ضمن بيئة متناغمة مستقرة يحول دون بروز مشاعر الغربة لدى أفرادها، والمحافظة على تماسك"وحدة"العائلة[43]. حتى المشكلات المتعددة التي تواجهها العائلة لها وجه مُشرق إنها تُسهم بشكل جوهري في تقوية أفرادها وتُغنيهم بالعواطف[44]، رغم جميع المحن والآلام، إنها تصبح بعد حين جُزءا من الذاكرة الممتعة لبعضنا في ساعات الصفاء. إننا بحاجة للارتباط مع عائلتنا الأصلية(=الأسرة)وعائلتنا الروحية(=الإنسانية)مهما كانت الخلافات التي تمزقنا، فأغلى القصص في حياتنا هي تلك التي تدور حول أنشطة جماعية ساهمنا فيها، علينا أن نتذكر أن: الأزهار المقطوعة لا تعمر طويلا!. والسكينة المطلقة تأتي نتيجة العناية بحدائق الآخرين!.
    رابطة الصداقة كذلك هي رابطة انتماء بنوع ما: يقول الكثير إن لديه عددًا كبيرًا من الأصدقاء لكنك إذا طلبت منه تحديد نوع تلك العلاقات تكتشف أنهم لا يُشركون هؤلاء الأصدقاء أفكارهم ودواعي قلقِهم وعواطِفهم، حتى تجدهم لا يشعرون بالشوق لرؤيتهم!. الصداقة ليست حاجة اختيارية بل هي أحد متطلبات النمو الشخصي. لا تحتاج الصداقة خلافا للفكرة الشائعة إلى رؤية بعضهم بشكل منتظم باللقاء المباشر، والاتصال الهاتفي، والبريد الإلكتروني بغية التذكير بالحفاظ على عهد الصداقة: عندما ترسخ الصداقة في النفس فإنها تصبح جزءا من الإنسان، وتتحول إلى ارتباط مندمج مع الذات هذا الارتباط قد يكون فعَّالاً وقد يكون كامنًا؛ فانقطاع الصديقين لسنوات مثلا يمكن بعده إشراك بعضهما بعضا بأمورهما وكأنهما لم يفترقا قط[45].
    مبدأ التبادل الإنساني لا التعاقد التجاري مبدأ ديـنـي: الدين فيه منظومةٌ تربط المجموعة، تشد البشر إلى الأواصر الخلقية الروحية المتعالية على كل ما هو "طبيعي"[46]إنه ليس عُصابًا جماعيًا كما توهم علم النفس الفرويدي إنه نمو انتمائي دائم! أي أنه كينونةٌ قبل أن يكون انتماءً: يؤكد كثير من علماء النفس والفلاسفة أن على الإنسان أن"يكون" قبل أن "ينتمي". فقد سأل رجل الزعيم الوطني الهندي المهاتما غاندي: عن دوافعه لخدمة الفقراء فقال: "أبدًا. أنا هنا لأخدمَ نفسي فقط، لتحقيق ذاتي عبر خدمة الآخرين!"[47].

    1. 5 شُطآن الرُّوح في الإيمان بالمقدَّس:
    يبدوا أن البشر يتعلمون أعمق ما في الحياة عندما يوشكون على الرحيل منها، إننا ندرك في تلك اللحظة أننا نشكل جزءا من الكل وأننا مجرد ذرَّات صغيرة في هذا الكون الواسع. المرض يعطينا الإشارة بوجوب العودة إلى المكان الصحيح ويوفر لنا الفرصة لإعادة صياغة حياتنا. معايشة المرض تفرض علينا إيـِمَانًا يُغلف كل ما في الحياة والعالم من حولنا[48].
    نحن نعتبر سلامتنا الجسمانية والنفسية أمرا مفروغا منه: لأننا لا نشعر بالصحة، لا نشعر بـ"قَـداسَةِ الـجَسَد".هناك أطباء ممن يعرفون وظائف الجسم حق المعرفة، لا يفكرون ولو لثوانٍ برئاتهم بعد إصابتهم بذات الرِّئة، ولا بقلوبهم بعد شفائهم من نوبة قلبية، بل إنهم قد يستعيدون عاداتهم الغذائية السابقة بشراهة، ويُهملون مزاولة التمرينات، وربما تراهم يُدخنون[49]: هل هؤلاء عرفوا للجسد قداسته الإلهية؟.(...) إذن من أين تأتيهم السَّكِينَة الجسمانية والنفسية؟
    الإنسان الحكيم حقا يحترم المخلوقات[50]وإذا سقط في خطيئة بحث عن بواعث الإمكانات الروحية التي يتضمنها هذا الفشل والشعور بالقلق[51].بل الخطيئة غرورا كانت أم حسدا أم شهوة إلخ...تحمل في طياتها إمكانية الوصول إلى أعلى مراتب الصلاح، فقط يجب أن نتحمل كامل المسؤولية عن خطايانا، ونعوض من أخطأنا إليه بكل إمكانيات البناء الموجب[52]أي أن نرد الاعتبار للقداسة التي انتهكناها. إن الأعراض هي "رسائل وإشارات" تأتي من أغوار النفس البعيدة تقول للفرد ربما أنكَ ارتكبتَ خطأ في حق جسدك، في اختيار دربك[53]، في علاقتك، في ردود فعلك، في مدينة لا تناسبك، في منزل لا يناسبك، في وظيفة لا تناسبك: عليك أن تصغي جيدا لصوتك الداخلي الصادق!.كما يقول المثل القديم-: يكفي أن يتذوق المرء قطرة ماء واحدة من البحر حتى يعرف أنه مالح![54].
    ينبغي للإنسان أولا أن يتحول تركيز حياته من المعاناة إلىالدوافعالتي تحثه للقيام بشيء ما[55].يقول شكسبير في مسرحية:"ماكبث":
    1. ماكبث: كيف حال مريضتك؟
    2. الطبيب: إنها ليست مريضة، يا سيدي، قدر ما هي أسيرة خيالات سقيمة...
    3. ماكبث: اشفها من تلك الخيالات.
    4. الطبيب: في هذه الحالة، على المريض أن يعالج نفسه!.
    يجب أن نتوقف دقائق فقط لنرى المعاملة الإلهية القدسية والكريمة لنا، ونفكر فيما نملك من قَدَاسَات بدل انتظار لحظات نادرة كهذه[56]. حتى لا تخيم علينا الكآبة. ففي تلك اللحظة قد تجتمع علينا عدة كآبات ربما منها هموم الشيخوخة والتي هي الأخرى لها وجهها المضيء والمشرق: ليس للإنسان خيار في تقدمه في السن، خياره الوحيد هو أن يعاني منه أو أن يتمتع بمزايا جمال الشيخوخة الرائع. إنها مزايا تختلف عن مزايا الشباب. يقول عالم النفس النمساوي: فيكتور فرانكل:" هناك أمر واحد أخشاه: ألا أكون جديرا بمعاناتي!"[57]. لا ينبغي لكل أحد أن يكون سيء الحظ حتى يعاني كافة مآسي الحياة ليدرك محن المعاناة، بل يجب أن يكون على وعي بأنه إنسان"معرض للأذى"ليدرك قداسة الحياة.
    إن رمز الأفعى الذي يثير الاستغراب، في فن شفاء الأمراض: يعود في الأصل إلى فكرةِ"قُدسيةِ"عَمليةِ الشِّفاءْ. كانت الأفعى عند قدماء الإغريق"الوثنيين"أحد رموز الآلهة. تلدغ الأفعى حيثُ يكون الجرح-يُصاب الجرحُ بالألم-فإذا لم يتزعزع إيمان الملدوغ، فإن المعاناة ستتكفل بشفائه![58]. كلنا لا بد أن نُستدعى في لحظة ما للمشاركة في حمل عبء الألم الذي ينوء به العَالمَ[59]. لأن المعلم الحقيقي هو ما يحدث معنا في الحياة، لذا يجب أن نجلس عند قَدَمَيْ الحياة ونسمح لأنفسنا أن تتعلم، فما ندعوه بالعالم العادي/الطبيعي هو الذي يحمل طبيعة استثنائية خيالية[60].فقط علينا عند الشعور المزمن بالتشاؤم والسلبية أن نُطهر أنفسنا من مشاعر الاستياء والحسد والإحباط لتتغير النظرة للعالم[61].فالطبيب ليس سيدًا للطبيعة، إنه خادم لها. وأنت طبيب نفسك وحكيمها!. وكل العلل البشرية التي جاءت الرسالات الإلهية لعلاجها تمر عبر الإيمان بالمقدس.

    1. 6 شُطآن الرُّوح في الإيمان بالتحول:
    فلسفة الموت ما يهم فيها ليس الخوف من الموت بل مما يأتي بعده، من الجحيم أو النعيم المقيم[62] فإن البشر يخوضون صراعًا بين أحاسيس الوجود المؤقت وبين رغبة البقاء والخلود، ومفهوم اللاوجود يثير عند كائن موجود الحيرة والارتباك، وليس هناك في تجاربنا اليومية الطبيعية العادية السابقة ما يهيئنا لخوض غمار هذه التجربة. في مواجهة الموت يبدو الإنسان وحيدا تماما، ولا أحد يستثنى من هذا المصير.وكلما توثق ارتباطنا"إحساسنا بالذات" بعوامل خارجية، أصبحت فكرة الموت أكثر إرباكا وتشويشا، الخوف ينشأ من خشية فقدان ما يملكه الإنسان، لكن الرُّعب ينشأ من خشية فقدان ما لم يملكه قط![63].
    والحل يكمن في الإيمان بالتحول والانتقال: علينا أن نموت بسلام، دون محاولة التشبث بالحياة. إن حادثة الموت ينبغي لها أيضا أن تعاش وتلقى منا القبول والتسليم، لا الرفض والغضب والمساومة والكآبة[64]. إن القبول بحتمية الموت ودنو الأجل تأخذ شكلين من التصرفات عن الناس: أحدهم يبدأ بكتابة الوصية، توديع الأصدقاء، زيارة أماكن قديمة إلخ... والبعض الآخر يرى في لحظة الاقتراب حافزا على الإقبال على الحياة إقبالا سويا تارة عند البعض وإقبالا سلبيا تارة عن البعض الآخر، فالـمُقبِلُون على الحياة إيجابا قبل شعورهم بقرب تلك اللحظات تراهم يستخلصون من الحياة أفضل ما فيها(=أقدس ما فيها) بشكل متعجل وسريع. يقرأون أكثر، يختلطون بالناس أكثر، يحبون أكثر، يفعلون أكثر، ينتجون أكثر وأكثر إلخ... إنهم يستشعرون معايشة فكرة الموت وهم على أتم الصحة، وتَقَبُّل "فكرة النهاية" عندهم تعني التقرب من الله أكثر. إنهم يسيرون برفق نحو النهاية، معنى الموت عندهم يكمن في علاقته بقيمة الحياة وقداستها هي الأخرى[65] ويعلم الكثير منهم أن "البطل لا يكون بطلا إذا رأى في الموت أمرا مُفزعًا، إن أول شروط المنزلة البطولية، هي ترويض النفس على قبول القبر!"[66].
    إذن الإيمان بالتحول يجعل من الموت مثلا جزءا من دورة أعظم، دورة الميلاد والتجدد الدائم. فبُذُورُ اليوم تبرعم وتنمو وتزهر ثم تتراجع، لتعود فَـتتكرر في بذور الغد. والموت هو ضمن هذه الدورة جزءٌ من خطة إستراتيجية لغاية أكثر شمولا![67].وقد يختلف الإيمان بعالم الخلود من ثقافة لأخرى ومن دين لآخر، لكن هناك دائما مكان جميل يترقب وصولنا. إنه العيش الأبدي الرغيد. وعلى النقيض يمثل غالبا نذير الموت الجانب المظلم من نهاية حياتنا[68]. ففي الخلود الذي نشرئب إليه نتلمس أجسادنا وعقولنا ونفوسنا لأنها حاضرة على الدوام في ذلك الوجود اللآخطي[69].

    1. 7 اللَّـه: كَـوْثَـرُ الحب والإيمان الـمُطلَق، كوثر الطَّبيعيات والخُلُقِيَّات:
    تجاوزت الروحانية الدنيوية الأسس التي تقوم عليها مفاهيمُها، مثلما حدث عندما تجاوز الرصد الفلكي(=علم الكون Cosomology) البطليموسي وكانت النتيجة الثورة التي أحدثها كوبرنيكوس. فلا مجال لإحداث تطور خاطف في المجال الروحي إلا عن طريق القيام بنقلة سريعة إلى الخلف(=الفطرة) والعودة إلى الإيمان، أي عن طريق الإيمان بالله ومحبته.
    قد يحاول الشخص الذي يحب الآخرين، ويحب عمله وانتماءه ويؤمن بقيمة كل شيء، قد يحاول أن يعيش حياة روحانية، ولكن كيف يستطيع شخص كهذا من اكتساب تلك المعتقدات الاستثنائية ومن تنميتها، وأنى له أن يحظى بالطاقة وبالإلهام اللَّذَيْن يُتيحان له الحفاظ على وجود كهذا؟ الجواب هو: الإيمان بالله ومحبته[70]. فـالإيـمانُ بـالله هُـوَ تـَجَاوُزُ للـذًَّات! مثلما هو مصدر الإيمان والتواضع إنه سعي لحقيقة أزلية.
    الفرق بين الملحد والمؤمن فرق كما يقول هارولد كوشنر في كتاب Who Needs God"الفرق هو أن الملحد أشبه بشجيرة في الصحراء" فهذا الشخص إذا لم يكن لديه من يعتمد عليه سوى نفسه، فإنه معرض لدى استنزاف موارده الداخلية، لخطر الجفاف والذبول. أما الإنسان الذي يتوجه إلى الله فهو"أشبه بشجرة غُرست على ضفة جدول!". فلا يمكن للمرء أن يسكن إلى أمجاده الروحية[71] أبدا ودوما.
    إن كل محاولة لحل التناقضات الكامنة في النفس تعتبر حجر عثرة في سبيل نموها، فالنفس تنمو وتزدهر ضمن طمأنينة معقدة التركيب، النفس لا تحتاج للطمأنينة البلسمية المخدِّرَة إلا كمرحلة بين مرحلتين. أما الطمأنينة الغائرة في الأعماق فإن الدرب المفضي إليها معقد لا يمر إلا عبر السخاء ووهب النفس، لدرجة العطاء دون الإفصاح عن الهُوية!: الإيمان هو الشعور بوجود معنى يمتلك وجود الفرد ويتحول إلى نموذج لأسلوب حياته[72].
    إذا كُنتَ تؤمن بالسماوات دون أن تحيط بمعناها ولو بأدنى درجة فأنت إذن تؤمن بالله إيمانا "تلقائيا"(=فطريا)كما شَعَرَ بذلك إمانويل كانط:"لابد من وجود الله"!. ولا يمكن محو طابع الفطرة الإيماني من الروح. فالبشر كائنات روحية وجسمانية بالفطرة[73]..
    ما لم يُسَلِّم الإنسان بوجود حقيقة أخرى تختلف جذريا عن الحقيقة التي نعيشها في حياتنا العادية، فإنه من الصعب الإجابة على كافة الأسئلة المتعلقة بالله فقط لأن الله –كما يستشهد المؤلف بالآية-:﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾]الأنعام: 103[.أو كما يقول بصريح القول:" لا الرمز ولا المجاز يمكن لهما وصف الذات الإلهية!". فلا نراه بذاته بل بمخلوقاته[74]. ففي عصر التنوير الغربي(بالغين المعجمة) تخلى اللاهوتيون اليهود والمسيحيون من ذوي الفكر التحرري عن الفكرة التي تعتبر الله شخصا، بالمعنى الحرفي للكلمة، واستمر الامتناع حتى العصر الحديث:" فقط هناك واحد مطلق سبحانه متعالٍ، حقيقتهُ تتجاوز كل هيئة". أو كما يقول المؤلف مستعيرا الكوجيتو الديكارتي:"أنا أؤمن إذن أنا موجود!"[75].
    قد تصادف أشخاصا لا يؤمنون بالله، أو أنهم في أفضل الأحوال يَشُكُّونَ في وجوده، لكن هذا الشك بحد ذاته هو أول دِلالة على أن هذا الشخص يؤمن:"بشيء ما" هذا الشيء عادة ما يتضح في النهاية أنه الله. وإرجاع القدرة إلى قوة مجهولة مستعصية على الفهم إنما هو إيمان بالله[76]في النهاية الصادقة. وما الصلاة والدعاء إلا المفتاح لهذا الإيمان: الصلاة والدعاء هما شوق للقاء الله، وهما صلة حميمية صامتة لاكتساب الرضى الدائم من المطلق الذي يحتاجه كل إنسان ضرورة.
    إن الله يتجاوز "كلام العلم" القائم على المدارك المحدودة، إنه يتجاوز عالم العلوم كلها، ويضع كل شيء في مقامه الحقيقي. كلام العلم كله: جمع لمعطيات تتعلق بموضوعات معينة ومن ثم وضع فرضيات لتفسيرها لا أكثر. فلا يستطيع تفسير كل شيء[77].
    •عندما قرأتُ الحكاية التالية لم أملك إلا أن أرتجف وأتصبب عرقا!:
    -كان رجل يقود سيارته بسرعة فائقة في ممر جبلي خطر. هوت السيارة من فوق جرف صخري، وبالكاد تمكن الرجل من النجاة بأن مد يده وتمسك بشجيرات نامية على جانب الجبل. أخذ الرجل وهو معلق في الهواء، يتضرع إلى الله:"رُحماك رُحماك ساعدني، أنقذني، سأتغير للأبد. سأفعل أي شيء رحماك، ساعدني" ناداه منادٍ: "هل ترغب في أن يساعدك الله؟"
    قال الرجل: "نعم، سأفعل أي شيء، أي شيء."
    أتاه صوت ثانية:"سيساعدك بشرط واحد."
    قال الرجل:"اطلب ما تشاء."
    قال الهاتف:"اِتـَّكِلْ عَـلىَ اللهِ واتـرُك الـشُّجَيرَات!."[78].
    حقًا إن معرفة الله ليست ككل معرفة، إنها تجربة خاصة.
    ·وبَـعـدُ:
    فعلى المرء أن يجد ذاته قبل أن يفقدها[79]، على المرء أن يبلغ سن الرشد بإرادته، فمكافأة الفضيلة وقيمتها في نهاية المطاف، هي أن لا يكون هناك الكثير للاعتذار عنه أو التوبة منه عندما توشك شمس الحياة على المغيب.
    عندما تجد نفسك هناك حيث السكينة تكتشف أنك كنت تعرف ما سعيت إليه، فقد كُنت هناك طوال الوقت.
    ينبغي لي أن أطفئ أنواري لكي تتمكن أنت من إضاءة أنوارك، ومن الوصول إلى موطنك بأمان. سأتركك الآن في أمان الله.
    والله أعلى وأعلم.هناهنا
    الرجوع الى أعلى الصفحة
    صلاحيات هذا المنتدى:
    لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى