- قايشعضو فضي
- :
عدد الرسائل : 586
العمر : 49
العمل/الترفيه : لاشئ
تاريخ التسجيل : 21/08/2008
التعريف بالإمام الونشريسي حياته وعصره
السبت 27 يونيو 2015, 18:03
التعريف بالإمام الونشريسي
حياته وعصره
تعتبر شخصية الإمام الونشريسي - رحمة الله عليه - من أهم من برَّز في علم النوازل؛ جمعًا وتأليفًا.
وفي هذا السياق سأتناول العرض أعلاه، من خلالِ مطلبين أساسين، على النحو التالي:
المطلب الأول: حياة الونشريسي:
أولاً: اسمه وكنيته ومولده:
أبو العباس أحمد بن يحيى بن محمد بن عبدالواحد بن علي الونشريسي التِّلمساني الأصل والمنشأ، الفاسي الدار والوفاة والمدفن، المالكي[1]، الفقيه العالم العلامة، حامل لواء المذهب على رأس المائة التاسعة[2]، وُلِد - رحمه الله - بجبال ونشريس التي تُعَد أكثر الكتل الجبلية ارتفاعًا في غرب الجزائر حوالي عام 834هـ - 1431م، ت 914هـ - 1508م، ونشأ بمدينة تلمسان؛ حيث درس على مجموعة من العلماء[3].
ثانيًا: شيوخه:
تتلمذ - رحمه الله - على يدِ مجموعة من العلماء والشيوخ، منهم على سبيل المثال:
1- أبو الفضلِ قاسم بن سعيد بن محمد العقباني، نسبة لبني عُقْبة بضم العين وتسكين القاف، الفقيه التلمساني، المجتهد الناقد، تولَّى قضاء تلمسان، ت 854هـ، له تعليق كبير على ابن الحاجب، والفرائض في الحساب، قال الونشريسي عنه: "شيخ شيوخنا، الإمام المفتي العالِم"، تأثر به، ونقل كثيرًا من فتاويه في معياره[4].
2- أبو عبدالله محمد بن العباس بن محمد بن عيسى العبادي التلمساني، الشهير بابن العباس، العالِم المحقِّق الحجة المفتي، ت 871هـ، له تصانيف، منها:
• شرح لامية الأفعال، وفتاوى كثيرة، درج بعضها في المعيار والمازونية، قال عنه الونشريسي: شيخ المفسِّرين والنُّحاة، العالِم على الإطلاق، شيخ شيوخنا[5].
3 - أبو عبدالله محمد بن عيسى المغيلي، الشهير بالجَلاَّب، التلمساني، العالِم العلامة الرُّحَلة، المتفنِّن الفاضل الفهَّامة، تولى قضاء الجماعة بتلمسان، ت 875هـ، قال عنه أبو العباس: (شيخنا الفقيهُ المحصِّل الحافظ)، ونقل بعض فتاواه في المعيار، كما نقلها المازوني في المازونية[6].
4- أبو سالم إبراهيم بن الشيخ أبي الفضل قاسم بن سعيد العقباني التلمساني، قاضي الجماعة بها، العالِم الفقيه الفاضل الفهَّامة، أخذ عن والده وعن غيره، وعنه الونشريسي، وأثنى عليه ونقل عنه في معياره، ت 880هـ، قال عنه الونشريسي: شيخُنا الإمام القاضي الفاضل[7].
5- أبو عبدالله محمد بن محمد بن حزورة من آل عبدالقيس، ت883هـ، قال أبو العباس في تزكيتِه: (شيخنا الفقيهُ الأصوليُّ الخطيب الأكمل).
6 - الشيخ زروق، أبو العباس أحمد بن أحمد محمد بن عيسى البرنسي الفاسي، الشهير بزروق؛ لأن جدَّه كان أزرقَ العينين، والبرنس نسبة إلى قبيلة من البربر بين مدينة فاس وتازا، أخذ عن أئمةٍ بالمشرق والمغرب، نذكر منهم:
• خاله أبا العباس أحمد بن محمد القشتالي.
• الزرهوني والمجاص بالمغرب، وأخَذ عنهم الفقه.
• عبدالرحمن الجزولي أخذ عنه التصوف.
وتخرَّج عليه جماعة بالمشرق وغيره؛ كالشيخ محمد بن عبدالرحمن، وخَلق، والونشريسي إجازة، له شروح متعددة لمختصر خليل، ولرسالة ابن أبي زيد القيرواني.
7- ابن مرزوق الكفيف، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن الخطيب الشهير محمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي التلمساني، المشهور بالكفيف، علَم الأعلام، المسنِد، الراوية، المحدِّث، أخذ عن أبيه ابن مرزوق الحفيد، وعليه تفقَّه، وعن أبي الفضل ابن الإمام، وقاسم العقباني، وجماعة، وعنه الخطيب ابن مرزوق، وابن أخته، وابن العباس الصغير، وأبي العباس الونشريسي، ت901هـ، قال أبو العباس في وصفه: (شيخنا الفقيهُ الحافظ الخطيب المصقع).
8- أبو عبدالله محمد بن عبدالله اليفرني المكناسي، قاضي الجماعة بفاس، الفقيه العلاَّمة، العمدة الفاضل، المطَّلع العارف بالأحكام والنوازل، أخذ عن والده، وعن القَوْري، وعيسى بن علال المصمودي، وغيرهم، وعنه جماعة؛ كعلي بن هارون، والمظغري، وأبي العباس الونشريسي، وابنه عبدالواحد، جلس إليه أبو العباس بعد نزوله بفاس، ونقل في معياره كثيرًا من فتاواه، ت 917هـ، وقيل: 918هـ.
من خلال ما سبق يتضح لنا أن الإمامَ الونشريسي - رحمه الله - تلقى علومًا متنوِّعة على يد مجموعة من العلماء الذين لهم باعٌ طويل في العلوم والمعارف، وهذا ما جعله يحظى بقيمةٍ علمية مميزة، وما جعل تلاميذه يحلقون حوله ويلازمونه، ومن هنا فإننا سنذكر بعضًا من تلامذته في النقطة التالية.
ثالثًا: تلامذته:
استفاد من عِلمه وفِقهه، وتخرَّج على يديه عددٌ من العلماء الذين بلغوا درجات عليا في التدريس والقضاء والفتيا، منهم:
1 - أبو عبدالله محمد بن محمد الغرديس التَّغلِبي القاضي، صاحب ثروة هائلة من الكتب المتوارَثة من العائلة العالِمة العريقة بفاس، استفاد منها الونشريسي، واتَّخَذ منها المادة الأساس لمَعْلَمتِه: "المعيار"، لا سيما ما يتعلقُ منها بفتاوى المغربِ والأندلس، لازم التلميذ شيخه إلى أن مات في سن الكهولة بسبب وباء الطاعون سنة 897هـ.
2- إبراهيم بن عبدالجبار الفجيجي الورتدغيري، الرحَّالة المحدِّث، أخذ عن أئمة، منهم: ابن غازي، وأحمد الونشريسي بفاس، وعن غيرهما ببلدان أخرى من المشرِقِ والمغرِبِ، توفِّي بعد 900هـ ببلاد السودانِ.
3- أبو زكريا يحيى بن مخلوف السوسي، الشيخ الفقيه الأستاذ العالِم المتفنِّن الرُّحَلة، أخذ عن ابن غازي، وأحمد الونشريسي، وغيرهما، وعنه عبدالواحد الونشريسي، واليسيتيني ت 927هـ.
4- عبدالله بن عمر المضغري، من مضغرة بسجلماسة، الفقيه الفَرَضي، الإمام الحافظ، أخذ بمدينة فاس عن أبي عبدالله محمد بن قاسم القَوْري، وأبي العباس الونشريسي، وعن غيرهما، وعنه: أبو الحسن علي بن هارون ت927هـ.
5- أبو عباد بن فليح اللمطي، الفقيه النوازلي، لازم الونشريسي زمنًا، فقرَأ عليه عددًا من الكتبِ، منها: فرعا ابن الحاجب 936هـ.
6- أبو القاسم بن عمر التفنوتي المعروف بالشيخ وبالكوش تلميذ الإمامين محمد بن غازي وأحمد الونشريسي، برَع في القراءات والفقه، وقواعد اللغة، والحساب والفرائض، وهو صاحب الوقف على كرسيِّ القراءات بجامع الشرفاء بفاس، ت حوالي 960هـ.
7- أبو محمد عبدالواحد بن أحمد الونشريسي، أو الونشريسي الصغير، كما ناداه عبدالهادي التازي في كتابه: جامع القرويين ت 955هـ.
8- أبو عبدالله محمد الكراسي الأندلسي، الأديب الشاعر، تولَّى قضاء مدينة تطوان، تفقَّه على ابن غازي والونشريسي، وهو أحدُ الذين خرَجوا لاستقبال الشيخ زروق عند قدومِه من المشرق إلى فاس (ت 964هـ)، له: "عروسة المسائل، فيما لبني وطاس من الفضائل".
9- أبو محمد عبدالسميح المصمودي، من جبل درن، أخَذ عن الونشريسي مختصرَ ابن الحاجب الفرعي، ورجَع إلى بلاده، حيث جلَس إليه جمٌّ غفير من طلاب العلم.
فمن خلال ما سبَق يتضحُ أنه كان للونشريسي تلامذةٌ مبرزون في علومٍ عدة.
المطلب الثاني: عصر الونشريسي:
للإلمام بعصر الونشريسي يتطلب الحديث عن جوانب كثيرة، وما دام بحثُنا هذا لا يركز كثيرًا على حياة الونشريسي وعصره، ارتأينا الاقتصارَ على الجوانب المهمة التالية:
أ- الحالة السياسية.
ب- الحالة الاقتصادية.
ج- الحالة الفكرية.
د- الحالة الدِّينية.
أ- الحالة السياسية:
إن الحديثَ عن الظروف السياسية التي عاشها الونشريسي تشكِّلُ نقطة تحول وانتقال من بلده ومسقط رأسه بالجزائر إلى المغرب؛ فقد خرج إلى الحياة في جوٍّ من تفرُّق الشمل، وتصدُّع الألفة، وانقطاع النظام؛ فالدولة الزيانية الحاكمة فشِلت في رَدْع الشعب وتوحيد الكلمة، إذ اشرأبَّت أعناق أفراد الأسرة الحاكمة للسيطرة على الحُكم، فكان النقاش في البداية بين أبي العباس المعتصم بالله، وأخيه أبي يحيى، ثم بين أبي العباس وحفيد أخيه أبي ثابت.
في هذه الظروف رحَل أبو العباس الونشريسي إلى فاس في أول محرم من سنة 874هـ.
ويبدو أنه رحَل اضطرارًا لَمَّا ضاق به المقام؛ فلقد استشرى الشرُّ ضده.
ويضيف صاحب السلوة إلى ما ذكرناه قوله: وكان شديدَ الشَّكيمة في دِين الله، لا تأخُذُه في الله لومةُ لائم؛ ولذلك لم يكن له مع الأمراء كبيرُ اتصال، ونزل رضي الله عنه فاس انتقالاً إليها من تلمسان؛ لما حصل له فيها من جهة السلطان.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد حجي في مقدمة المعيار: "ولما بلغ أحمد الونشريسي أشُدَّه، وبلغ أربعين سنة، وهو يومئذٍ قوَّالٌ للحق، لا تأخُذُه في الله لومةُ لائم، غضِب عليه السلطان أبو ثابت الزياني، وأمَر بنهب داره، فخرَج إلى فاس، ولقي مِن حفاوة فقهائها وإقبال طلبتِها عليه ما أنساه الغربةَ، وجعله ينسجم في بيئته الجديدة انسجامًا تامًّا، ويتخذ من هذه البلدة موطنًا له ولأبنائه من بعده".
ب- الحالة الاقتصادية:
إن الحديثَ عن الحالة الاقتصادية ينظر من النقط التالية:
الصناعة:
من أهمِّ الصناعات التي عرَفها العصر الوطاسي بالمغرب: صناعة الأسلحة العتيقة؛ كالسيوف والرِّماح، والخناجر....، ومركزها مدينتا فاس والقصر الكبير.
وفي تلمسان ازدهرت صناعةُ المنتوجات الصوفية، والدباغة، والزيت، والمراكب، والسروج، وخشب البنادق، وكانت قبل الاستعمار قُطْبَ الحركة التِّجاريَّة الأكبر، وكان إليها مقصِدُ التجَّار من الأقطار، وأحسن ما بها الخيل الراشدية.
وفي فاس أيضًا تسُودُ هذه الصناعات؛ من حِياكة، وصباغة، وصُنع خَشَب، ويوجد بها معمل ضرب النقود يسمى: دار السكة.
فالصناعة التي كانت سائدة هي الصناعةُ التقليدية، إذا استثنينا صانعي الأسلحة، وهم بعض مسلمي إسبانيا الوافدين.
التِّجارة:
رغم بعض المِحَن التي توالت على المغرِبِ، فإن العلاقات التِّجارية بين المغربِ والبلاد النَّصرانية ظلت مستمرةً في أيام بني وطاس، وكانت أكثر هذه المعاملات تُبرَم بفاس التي كانت تستورد المعادن، والثياب والأقمشة المتنوعة، والتوابل، مقابل ما كان يصدِّره المغربُ إلى الخارج من منتوجات وطنية؛ كالحبوب، والسكَّر، والجلود، والصوف، والزرابي المغربية، أما تجَّار تلمسان، فكانت تتجه رِحلاتُهم التِّجارية إلى بلاد السودان.
الحالة الفكرية:
لَم يعرفِ العهدُ الوطاسي حركةً علمية ذات شأن، ومع ذلك فإن هذا العهدَ لم يخلُ من علماءَ مفكرين، سواء بالمغرب أو الجزائر، نذكر منهم:
أ- بالمغرب:
• أبا عبدالله محمد بن قاسم اللَّخْمي المكناسي القَوْري 872هـ شيخ ابن غازي.
• القاضي أبا فارس أبا عبدالله عبدالعزيز الورياغلي الفاسي (ت 894هـ)، كان يُدعَى بالصَّاعقة؛ لِما يمتازُ به من حِدَّةٍ وجرأة.
• أبا العباس أحمد بن محمد بن عيسى اليزنسي الفاسي الشهير بزروق (ت 899هـ)، أحد الجسور المهمَّة للربطِ بين المشرقِ والمغرب، صاحب التآليف الجيدة في الفِقه والتصوُّف.
• أبا الحسن علي بن قاسم الزقاق (ت 912هـ)، وهو الذي يرجع إليه الفضلُ في جَمْع المسائل التي جرى بها العمل في لاميته المشهورة، وصاحب المنهج المنتَخَب إلى قواعد المذهب.
• أبا العباس أحمد الونشريسي (ت 914هـ)، كان له شأنٌ عظيم في بلدة تلمسان، أو في مَهجَرِه فاس؛ حيث أكبَّ على تدريس المدونة وفرعي ابن الحاجب في المسجد المعلَّق بالشراطين، وذلك فورَ وصوله من تلمسان، وقبل أن تُسنَد إليه الكراسي الوقفية في أهمِّ مساجدِ فاس.
ونظرًا لعدمِ الإسهاب في هذا الجانب، فإني اكتفيتُ بما ذكر من الرِّجالات البارزة بالمغرب.
ب- في الجزائر:
ظهرت شخصيات فكرية بارزة بالجزائر، أمثال:
• أبي الفضل محمد بن محمد بن أبي القاسم المشدالي (ت 864هـ)، صاحب شرح جمل الخونجي في المنطق.
• أبي زيد عبدالرحمن الثعالبي (ت 875هـ) صاحب التصانيف المتنوعة؛ كالجواهر الحسان في تفسير القرآن، جامع الهمم لأخبار الأمم، شرح على مختصر ابن الحاجب الفرعي، وغيرها.
• محمد بن عبدالكريم المغيلي (ت 909هـ) له: "البدر المنير في علوم التفسير"، مفتاح النظر في عِلم الحديث، وغيرها.
• أبي العباس أحمد بن يحيى بن عبدالواحد الونشريسي (ت 914هـ)، صاحب المَعْلَمة الفقهية الكبرى: المعيار، والتآليف العديدة، سنذكرها في حينها.
الحالة الدِّينية:
لَم يكنِ العزوُ الإيبري على الشمال الإفريقي ماديًّا فقط، بل كان مصحوبًا بغزوٍ فكري متمثِّل في الحملاتِ التنصيرية التي مارَسها المسيحيُّونَ على مرأى ومسمعٍ من السُّلطانِ وأعوانه.
وتشير المصادرُ الأجنبية إلى المصيرِ المأسوي الذي انتهى إليه الراهب: مرتان دوسبوليت Martin despolette على يدِ سكان فاس الذين عمَدوا إلى إحراقِه في مشهدٍ عام بعدما تجرَّأ وبدأ ينشُرُ المسيحيةَ بين سكان المدينةِ المُسلِمين.
ولا يعني هذا أن الحملةَ التنصيرية لم تخلِّفْ آثارًا سلبية في المجتمعات الإسلامية، بل على العكس من ذلك، إذ خرَج مَن خرج عن دِينه هروبًا مِن الوَضْع المُزْرِي، وشكَّل هؤلاء طائفتين:
الطائفة الأولى: تشمَل العرَّافين والسَّحَرة والمشعوذين، وهؤلاء يوهِمون الناس بأنهم يعلَمون الغيب، وقد كسَبوا ثقة الناس الجهَّال وأمثالهم، وحصلوا بذلك على أموالٍ كثيرة.
الطائفة الثانية: وتتمثل في الصوفية والساذجين من الجمهور، وأصحاب أسرار الحروف؛ فقد وجد بفاس بعض الأشخاص الذين يحمِلون اسم الصوفيةِ، ويمارسون أعمالاً غيرَ شرعية؛ كإباحة التغنِّي بقصائدَ غرامية فاحشة، وتشبُّثهم بالنظريات الفلسفية المستوردة؛ كوَحْدة الوجود، والاتحاد والحلول.
أما الخُرَافيُّون من الجمهور الساذجين، فتختلف وجهاتُ نظرِهم باختلاف معتقداتهم؛ فهم يعتقدون اعتقادًا جازمًا أن بإمكان الإنسان أن يكتسبَ طبيعة الملائكةِ بالأعمال الصالحة والصيام.
أما أصحاب أسرار الحروف، فهم يصومون صومًا غريبًا، ولا يأكلون اللَّحم، يحمِلون التمائم، ويزعُمونَ أنهم تتجلَّى لهم الأرواحُ لتمدَّهم بمعرفةٍ شمولية.
كما ظهَر أدعياء الضَّلال المفتَرِين؛ فظهر عمرو بن سليمان السيَّاف ببلاد السوس بالمغرب، ادَّعى أنه وارثُ النبوة، وأن له أحكامًا تخصُّه كما في فِقه الخَضِر مع موسى عليهما السلام، وأن الخَضِر حيٌّ، ونبيٌّ مرسَل، وأنه يلقاه ويأخُذُ عنه.
ويتحدث أبو العباس الونشريسي عن ظهورِ دعيٍّ آخرَ بجبل ونشريس أفسد على الناس دينَهم، وزعزع عقيدتهم: ﴿ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 144].
وبالنسبة للعقيدة الدِّينية، رسَتِ الجزائر في هذه الفترة على التديُّن بعقيدة الأشعري، وفيما يتعلَّقُ بالمذاهب الفِقهية تَمَذْهَبَتْ بمذهب الإمام مالكٍ رحمه الله.
قال البَكْري: ولم تزَلْ تلمسان دارًا للعلماء والمحدِّثين وحَمَلة الرأي على مذهب مالك بن أنس رحمه الله، ولم يخالف في ذلك إلا بعضُ البطون والقبائل؛ فإنهم لم يزالوا يومئذٍ على رأي الشِّيعة.
المبحث الثاني: مكانة الونشريسي العلمية وأهم مؤلفاته:
1 - مكانته العلمية:
إن المُطالِع لمكانة الونشريسي العلمية يدرك أنه كان موسوعةً علمية في كلِّ الميادين، وهذه السِّمة تكوَّنت عنده لتلقِّيه العِلمَ عن كبارِ علماء عصره في المغربين - الأقصى والأوسط - فبلَغ بذلك غايةً كبرى في مجالِ التأليف.
ومما يُحكى عنه في طريقةِ تأليفه أنه كانت له عرصةٌ يمشي إليها في كل يوم، ويجعل حمل ًا يحمل عليه أوراق الكتب من كلِّ كتاب ورقتين أو ثلاثة، فإذا دخل العرصة جرَّد ثيابه وبقي في قشابة صوف يحزم عليها بمضمَّة جلد، ويكشف رأسَه، وكان أصلَع، ويجعل تلك الأوراقَ على حدة في صفَّين، والدواة في حزامه، والقلم في يد، والكاغد في الأخرى، وهو يمشي بين الصَّفَّين، ويكتب النُّقول من كلِّ ورقة، حتى إذا فرغ من جلبها على المسألة، قيَّد ما عنده وما يظهر له من الرَّد والقَبول، هذا شأنه وعلمه، وفضلُه أشهر من أن يُذكَر، فهذا يدلُّ على أنه كان مجتهدًا منكبًّا على التأليف.
ومما يسجل لقوَّته العلمية أنه خصص له كرسي من الكراسي العلمية بفاس، وهو كرسي الفقه المخصص لتدريس المدونة، وبأهم المدارس مدرسة المصباحية، إلى جانب ذلك إضافة هذا الكرسي باسم الونشريسي، وسواء عُنِي بذلك الأب أو الابن، فإن الشَّرَف يلحق هذه السلالة في كل وقت.
وفي صدد الحديث عن مكانته العلمية يقول أحمد المنجور في فهرسته: وأكبَّ على تدريس المدونة وابن الحاجب الفرعي، وكان مشاركًا في فنون العلم، إلا أنه لازَم تدريس الفقه، يقول: من لا يعرفه لا يعرف غيره، وكان فصيحَ اللِّسان والقلم، حتى كان مَن يحضُرُه يقول: لو حضره سيبوَيْهِ لأخَذ النحو مِن فِيه.
وقد قال شيخ الجماعة بالمغرب الإمام محمد بن غازي حين مرَّ به أحمد الونشريسي يومًا بجامع القرويين: لو أن رجلاً حلَف بطلاق زوجته أن أبا العباس الونشريسي أحاط بمذهب مالكٍ أصولِه وفروعِه، لكان بارًّا في يمينه، ولا تطلقُ عليه زوجتُه؛ لتبحُّرِ أبي العباس، وكثرة اطِّلاعه، وحفظه وإتقانه.
وما المؤلفات العلمية التي خلفها إلا دليل على تمكُّنِه من العلم ورسوخه فيه، وهذا ما سأتعرَّض إليه خلال النقطة التالية.
2- مؤلَّفاته:
لم يشغَلْه التدريس وتربية أبنائه عن التأليف، فقد خلف - رحمه الله - كتبًا عديدة، وألَّف تآليفَ مفيدة، منها:
• الأسئلة والأجوبة، وهذا الكتاب يتضمن مجموعةً من الأسئلة والأجوبة وضَعها الونشريسي عام 871هـ بتلمسان، وبعث بها إلى أستاذِه عبدالله القَوْري بفاس، وضمَّن معظمَها في معيارِه.
• إيضاح المسالك إلى قواعدِ الإمام أبي عبدالله مالك، ويُعرف بالقواعدِ الفقهية، ويضمُّ مائة وثماني عشرة قاعدة، يقول محمد الحجوي: له أهميةٌ قصوى عند المالكية ولدى أئمة المغرب؛ إذ يجعلونه ضِمن الكتب التي يجب على المفتي قراءتُها واستحضار قواعدها قبل إصدار الفتوى، وقد اعتنى بنَظْمه ابنُه عبدالواحد في كتابٍ أسماه: "سنا المقتبس - أو النور المقتبس - لفَهْم قواعدِ الإمام مالك بن أنس"، ويحتوي على خَمسمائة وألف بي.
• الوَفَيَات، وهو كتاب ضمنه ترجمة كاملة لشيوخه، ويعتبر العمدةَ لدى مترجميه، يبتدئ بعام 701، وينتهي بعام 912هـ؛ أي: قبل وفاته بسنتين، عُنِيَتْ بنشره دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر ضمن كتاب: ألف سنة من الوَفَيَات، وهو ذيلٌ لكتاب: "شرف الطالب في أسنى المطالب"؛ لأحمد بن القنفذ القسطنطيني.
• الواعي لمسائلِ الأحكام والتداعي، ذكَره الونشريسي في كتابه: إيضاح المسالك.
• المنهج الفائق والمَنْهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق، وقد حقَّقَتْه الأستاذة لطيفة الحسني، ونالت به دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية من دار الحديث الحسنية، وطبعَتْه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة 1418هـ - 1997م.
• عدة البروق في تلخيص ما في المذهب من الجموع والفروق، طُبِع على الحجر بفاس في 296 صفحة، وموضوعُه: مقاصد الشريعة الإسلامية؛ إذ يبيِّنُ العِللَ في اختلافِ الأحكام بين المسائل.
• الفَهْرسة: ترجم فيها لشيوخه وشيوخ شيوخه، وقد أجاز بها تلميذَه أبا عبدالله محمد بن عبدالجبار الورتدغيري، بل كتَبَها باسمه، ذكَره مترجموه باللغة العربية، ونقلت عنهم المراجع الأجنبية.
• المعيار المعرِب، والجامع المغرب، عن فتاوى علماءِ إفريقية والأندلس والمغرب.
3- قيمة كتاب المعيار:
هذا الكتاب من أشهرِ كتب المالكية في الفتوى، ومكانته لا تخفى على أحدٍ، طُبِع في ثلاثة عشر جزءًا، والجزء الثالث عشر عبارة عن فهرسته، استمدَّ معلوماته - فيما يتعلق بفتاوى علماء فاس والأندلس - من مكتبة تلميذه القاضي محمد بن محمد الغرديس التَّغلِبي، وفيما يتعلَّقُ بفتاوى أهل إفريقية - تونس والجزائر وتلمسان - كانت مصادره الأساس نوازل البرزلي أبي القاسم بن أحمد القيرواني (ت 844هـ)، وهي المعروفةُ: بالدرَّة المكنونة في نوازل مازونة؛ ليحيى بن أبي عمران المغيلي قاضي بلدة مازونة (على ضِفَّة نهر واريزان غربي الجزائر) (ت 883هـ).
ويذكُر المؤلِّف في بداية الكتاب، أنه جمع في كتابه أجوبة المتأخرين المعاصرين من علماء إفريقية والأندلس، ومن متقدِّميهم ما يعسُرُ الوقوف على أكثره في أماكنِه، واستخراجه من مكامنه؛ لتبدده وتفريقه... ورتَّبتُه على الأبواب الفقهية؛ ليسهُل الأمر فيه على الناظر، وصرحت بأسماء المفتين إلا في اليسير النادر، ولم يلتزم الونشريسي بما بدأ به البرزلي من بسطِ أحكام الفتيا في المقدمة، فبدأ بكتاب الطهارة، فالصلاة، إلى آخر أبواب الفقه المعروفة، ثم ختَمه بكتاب الجامع الذي ضم مسائل متنوعة شملت الجزأين الحادي عشر والثاني عشر من الكتاب المطبوع.
إلى جانب ذلك يأتي الونشريسي بنصوصِ الأسئلة على حالها، ولو أنها في الغالب محررة من طرَف عوامَّ، أو أشباه عوام، ولا تسمح له أمانتُه العلمية بالتصرُّفِ فيها أو تقويمها، وتنحرف أحيانًا أخرى عبارات المفتين أنفسهم عن الأسلوب الفصيح، لا سيما عندما يتحدَّثون عن العاداتِ والأعراف المحلية، فلا يتدخَّل المؤلِّف في ذلك بتصحيح ولا تعديل؛ ولذلك نجد في المعيار كثيرًا من الكلمات الدارجة والعبارات الملحونة، مثل: "باطلاً"؛ أي: مجانًا بدون مقابل، و"ليهدنوا الشر بين الزوجين" بمعنى الإصلاح بينهما، وغير ذلك من الألفاظ الأخرى.
والدارس لكتاب المعيار يجد الفتاوى تتكرر أحيانًا بنص السؤال والجواب، ولكنه كثيرًا ما يتفادى ظاهرةَ التكرار والإطالة فيما يكتُبُ من تعاليقَ على بعضِ الفتاوى بالإحالة على بعض كُتبه، أو كتب غيره من الفقهاء والمتقدِّمين.
ويمتاز المعيارُ بكثرةِ ما احتوى عليه من نوازلَ، وهي تختلف أساسًا عن الافتراضاتِ النظرية التي طالما شعَّبتِ الفقه وضخَّمته وعقَّدَتْه، فكانت الأحداثُ التي عاشها الغرب الإسلامي مَدعاةً إلى اجتهاد الفقهاءِ لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة عن طريقِ استقراء النصوص الفِقهية القديمة ومقارنتها وتأويلها.
يرى بعضُ الباحثين أن المسارَ التعليميَّ والمِهْنيَّ والسياسيَّ الذي اتبعه الونشريسي يمكن استخلاصُه من الفترة التي ألَّف فيها الكتاب، وهي نهاية القرن الخامس عشر الميلادي؛ أي: خروج المسلمين النهائي من الأندلس، وعلاقة ذلك بتاريخ الغَرْب الإسلامي؛ حيث ظهَرَت قوى جديدة في البحر المتوسط بدأت تتجاذَبُه، وبتفشِّي نوعٍ من الممارسات الدِّينية في الأرياف والمدن معًا، وهو ما يُعرَف بالزوايا والطُّرق الصوفية، وينتهي إلى القول: إذا ما وضعنا الكتاب في إطار هذه المستجدات، فإننا يمكنُ أن نطمَعَ في أن يكون المعيار "وثيقة تاريخية" مهمة حول العصرِ، مكتوبة بلُغَة الفقه.
وللمعيار جانبٌ آخر قلما يُلتَفَت إليه، وهو الجانب الاجتماعي والتاريخي؛ فقد حوى الكثير من الإشارات إلى أحوالِ المجتمع الإسلامي في هذه المنطقة؛ من عادات في الأفراح والأتراح، وأنواع الملبوسات والمطعومات، وحالات معيَّنة في الحرب والسلم والعمران، وما إلى ذلك، الأمر الذي يجعل منه مصدرًا وثيقًا للمؤرِّخ والاجتماعي مثلما هو للفقيه.
وتتجلَّى مكانةُ المعيار في اهتمام فقهاء الأمصار به منذ عصر المؤلِّفِ إلى أيامنا هذه، وتَكْفيه التسميةُ التي أطلقوها عليه: "المَعْلَمة الفِقهية"، أو "الموسوعة الفقهية" شرفًا وفخرًا، والبحوث التي قامت - ولا زالت تقوم عليه - دليلٌ كافٍ على أهميته، ونذكُرُ منها على سبيل المثال لا الحصر: اختصار أحمد بن سعيد المجليد (ت 1094هـ) في مجلد واحد سماه: الأعلام بما في المعيار من تاريخ الإسلام، ثم الدراسة التي قام بها Emile AMAR على كتاب المعيار بالفرنسية في جزأين، نشرت في باريس عام 1908م، واشتمَلَت على دراسةٍ مختصرة للكتاب، وهنالك بحوث لها أهيمتها نشرت في مجلات عربية وأجنبية.
ونختم ما يتعلق بمكانة كتاب المعيار، أن المؤلِّفَ استغرق في تأليفِه حسب ما جاء في مقدمة المعيار حوالي ربع قرن، من نحو عام 890هـ إلى وفاة المؤلف عام 914هـ.
خصائص الونشريسي في كتابه المعيار
التزم الونشريسي - رحمه الله - بعرض أقوال العلماء السابقين وأحكام قضاياهم في إطار منهج رائع، تمسك بالأمانة العلمية في نسبة الأقوال والفتاوى، والردود والتعقيبات، إلى أصحابها بكل تجرُّد، والأسلوب الغالب في موسوعتِه أنه يقول: "سُئِل فلان عن كذا"، فيبين السؤال بوضوح، ثم يقول: "فأجاب..."، ثم يذكر الجواب بالتفصيل.
وأول خطوة منهجية يلاحظها المستقرئ لفتاوى المعيار أن الفقهاء يسلكون في الحكم على النازلة مسالك تختلف وتتعدد الأدلة الشرعية من:
• نص في المنصوص عليه، وقياس فيما لم يُنصَّ عليه.
• ثم التخريج على القواعد الفقهية والأصولية.
وهنا أسوق باختصار نماذج تمثِّل لمنهج الفقهاء قديمًا في الحكم على النوازل والاستدلالات عليها؛ وهي كما يلي:
أولاً: النص:
والمقصود به أن يعتمد الفقيهُ في حكم نازلةٍ معيَّنة على آية قرآنية أو حديث نبوي شريف؛ حتى تطمئنَّ نفسية السائل.
• فمن أمثلة الاستدلال بالقرآن الكريم، ما ذكره الونشريسي- رحمه الله - حيث قال: "سئل ابن لب عن إضافة التهليل والتسبيح بعد قراءة القرآن، فأجاب بأن ذلك يدخل في باب الذكر الذي أمر الله - سبحانه - بالإكثار منه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 191]، ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]؛ فيلاحظ هنا أنه استدلَّ بالقرآن الكريم.
• ومن أمثلة استدلاله بالسنة، ما أورده الونشريسي فيما يتعلق بموضوع "الالتفات في الصلاة"، فلقد سئل سيدي عبدالله العبدوسي عن حكم الالتفات في الصلاة، وتضمَّن هذا السؤال ما يقارب صفحة، وتضمن الجواب الاستدلال بأحاديث كثيرة؛ منها: ما نقله أبو بكر بن يونس عن ابن حبيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والالتفات في الصلاة، فإنها الهلكة)).
ثانيًا القياس:
أورد الونشريسي - رحمه الله - فتوى لسيدي محمد بن مرزوق عن حكم الطهارة لسجود الشكر عند القائلين به.
والقياس يقتضي وجوبها؛ لأنه سجود يُفعل على وجه القربة، فشرط فيه الطهارة، كسجود القربة، فأجاب: "قياسكم سجود الشكر على سجود التلاوة على مقتضى ما ذهب إليه الجمهور في سجود التلاوة".
والجمع بين الأصل والفرع بوصف السجودالمقترنبه، أو بوصف الصلاة في غاية الظهور، ولا سيما على قول القاضي - رحمه الله - في الأعمال: لا خلاف أن سجود القرآن يحتاج إلى ما تحتاج إليه الصلاة من طهارة مسجد،ولبس، واستقبال قبلة، ووقت مباح للصلاة على ما تقدم إلى آخر الجواب.
ثالثًا: الاستئناس بفتاوى العلماء السابقين:
يقول الونشريسي- رحمه الله -: "وسئل عيسى الغريبي عن قرية بها جماعة، فامتنع بعضهم من إقامة الجماعة وبناء المسجد، وأخذ المؤدِّب لقراءة أولادهم، فهل يجبرون على ذلك؟... إلخ السؤال، فأجاب: جبرُهم على بناء المسجد واجب، وكذا جبرهم على مؤدِّب أولادهم، وأما جبرهم على أجرة الإمام فكان شيخنا - رحمه الله - يفتي به إذا كانوا لا يحسنون القراءة ولا أحكام الصلاة، وعدم مَن يصلي بهم إلا بإجارة...".
فنجد هنا الاعتماد على فتاوى علماء سابقين، حتى ولو كانت مجرَّدة من الدليل؛ مما يعني أنه يمكن القول: إن هذه الفتاوى، وإن كانت تعالج واقعة بعينها، إلا أنها متعدية - في تطبيقها - تلك الوقائع إلى ما شاكلها من النوازل المستجدَّة.
ولعل ما يشهد لذلك، اعتمادُ الفقهاء على فتاوى وأقوال علماء السابقين، خصوصًا في كتب النوازل، حتى في مصنفاتهم الفقهية، ونلحظ ذلك مثلاً في "التاج والإكليل شرح مختصر خليل" للمواق، عند فرائض الوضوء؛ حيث يقول: "وفي نوازل البرزلي الخضاب والحناء للتي لا زوج لها جائز، وللمعتدة حرام، ولذاتِ الزوج مستحب.
ويقول في موضع آخر: "ومن نوازل ابن الحاج إذا اتَّفق الجيران على حرسِ حوانيتهم، فأبَى بعضهم، فإنه يرجع عليه بما ينوبه ويجبر".
ويقول: "وفي نوازل ابن رشد اختلف بم يكون التقدير؟ (يعني للمد) فقيل بالماء، وقيل بالوسط".
وهكذا الحال بالنسبة لكتب فقهية أخرى.
رابعًا: ذكر الخلاف العالي والاستئناس بالمذاهب الأخرى:
وغالبًا ما يكونُ ذلك عندما يقع اعتراضٌ على فتوى في نازلةٍ بعينِها، ونجد ذلك مثلاً في فتوى أصدرها مفتي غرناطة أبو القاسم بن سراج - رحمه الله تعالى - يعالجُ فيها إشكالية استقبال القبلة في الأمصار البعيدة، وبعد بحث طويل خلص - من بين ما خلص إليه - إلى أن المحاريب المنصوبة بالأمصار الكبيرة يجوز تقليدها كما نصَّ على ذلك العلماء.
وعندما اعترض جوابه أبو الحسن الغربالي، ردَّ عليه في جواب آخر طويل، وتضمن جوابه بيانًا لأصل الخلاف، مستعرضًا آراء بعض الصحابة والتابعين، ومشهور مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم؛ حيث يقول: "اختلف فيمَن لم يعاين مكة - شرفها الله تعالى - هل يجب عليه استقبال القبلة؟ وهو المشهور في مذهبنا، وهو مقتضى قول مالك في المجموعة؛ لأنه لما نقل فيها قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجَّه قِبَل البيت".
قال مالك: وهو الأمر عندنا، وهو قول جمهور العلماء، والمشهور من مذهب الشافعية، وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل - رحمهم الله.
القول الثاني: أنه يجب طلب السمت، وهو قول ابن القصار من علماء المذهب المالكي، ومالإليه الباجي، وهو قول بعض علماء الشافعية.
ثم بيَّن - رحمه الله - مدرك ومنشأ هذا الخلاف مستأنسًا بمذاهب مجموعة من الصحابة - رضوان الله عليهم -: "فوجهُ القول باعتبار الجهة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة))؛ رواه الترمذي وصحَّحه، ونقله عن جماعة من الصحابة؛ منهم: عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس - رضي الله عنهم أجمعين".
خامسًا: الترجيح بين مذاهب العلماء وأقوالهم:
فقد أورد الونشريسي- رحمه الله- أن سيدي محمد المشدالي سُئِل عن بيان قول ابن الحاجب: "وكذلك لو علم أعيان بعضها، ونسي الترتيب على المشهور"، فإنه قد أشكل معناه.
وقول خليل؛ أي: إذا علم الصلاة وشك هل من الخميس أو الجمعة لزم الخميس أيضًا مشكل، فأجاب ما قاله خليل مرجوح من وجهين".
وبدأ بتقديم الأدلة على ترجيح قول ابن الحاجب على قول خليل.
مما يدلُّنا على أن النوازل قد تأخذُ منحى آخر غير مجرد الاستفسار عن حكم نازلة أو واقعة، وإنما يقصد المستفتِي إزالةَ لبسٍ وقع بين أقوال وآراء علماء في قضية معينة، وهذا النوع من النوازل الذي يشكِّل مرتبة من مراتب النوازل بالنظر إلى موضوعها، نلاحظه باستمرار في فتاوى المعيار.
سادسًا: التوقُّف:
قد يلجأ الفقيه إلى التوقف في حكم النازلة، عندما لا يتضح له الحكم عليها، أو على جزئية لها علاقة بها، فيقول: انظر هل حكم المسألة كذا؟
ففي المعيار أمثلة لهذا، منها ما ورد في سؤال بعضهم عن الإمام الراتب إذا صلى وحده، هل يقول: سمع الله لمن حمده، فقط؟ أو حكمه حكم المنفرد؟ فنجدُه يتوقَّف في حكم المأموم بعد سلام إمامه، قائلاً: وانظر المسبوق بعد سلام إمامه، هل حكمه حكم المأموم؟ أو حكمه حكم المتفرد فيجمع بينهما؟.
وعلى غرار ما سبق نلمس في نوازل المعيار أجوبةً يكون الاستدلال فيها بالقواعد الفقهية والأصولية، ولبيان ذلك نسوق نموذجًا لكل من القواعد الفقهية والأصولية.
أولاً: الاستدلال بالقواعد الفقهية:
إن المتَّبِع للفتاوى في المعيار يرى أن الاستدلالَ بالقواعد الفقهية كثير، فمثلاً قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، شكلت حضورًا بارزًا في الفتاوى السابقة، فمن نماذجها:
يقول الونشريسي- رحمه الله تعالى - في ختام حديثٍ له حول نازلة الصلاة في الثوب الذي ينسجه النصارى، ويجعلون فيه شحم الخنزير، وبعد غسله بالماء تبقى الرطوبة، يقول: "والتطهير كما وصفه أهل المذهب بالماء خاصة لا يلزم غيره... قالوا: ولا يضر بقاء الرائحة ولا اللون إن عسر قلعه بالماء".
فهنا نلمس حضور معاني اليسر ورفع الحرج، وهو ما تؤكده قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، فإنه لما شق وعسر اقتلاع أثر النجاسة وإزالته بالكلية، حصل التخفيف والتيسير من الفقهاء - رحمهم الله - في تنزيل الحكم على هذه الواقعة، بَيْدَ أنه يجدرُ بنا أن ننبِّه إلى قاعدة مندرجة تحت هذه الكلية، ولعلها تنطبق على هذه النازلة بشكل مباشر، وهي قاعدة: "يُعفَى عمَّا يعسر".
ثانيًا: الاستدلال بالقواعد الأصولية:
ومن أمثلة ذلك ما نراه في فتوى لأبي عبدالله محمد بن عقاب في مسألة الأواني التي التَبَس فيها الطاهر بالنجس؛ حيث بيَّن الحكم - الذي هو الوضوء - بزيادة واحد على عدد النجس، مبيِّنًا مدرك الخلاف ومنشأه الذي يعود إلى الاختلاف في القواعد الأصولية، وذلك أن المسألة قد تعارض فيها قاعدتان أصوليتان:
إحداهما قاعدة: "النهي عن واحد لا بعينه"،والأخرى قاعدة الأمر كذلك؛ فالأولى لا تبرأ الذمة فيها إلا بترك الجميع، والثانية يكفي في براءة الذمة فيها فعل واحد من تلك الأشياء....
وبيان ذلك أن الإناء النَّجِس منهيٌّ عن الوضوء به، وهو غير معين في الأواني المشتبهة، فيتنزل النهي عنها منزلة النهي عن واحد لا بعينه، والأواني الطاهرة مأمورٌ بالواحد منها، وهو غير معين في تلك الأواني المشتبهة، فيتنزل الأمر به منزلة الأمر بواحد لا بعينه.
ثم أشار إلى أن قول سحنون من المالكية: أن مَن التبس عليه الأواني يَتيَمَّم ويتركهاوهو مبني على ترجيح قاعدة النهي؛ لأنه من باب دفع المفاسد، والثانية وهي قاعدة الأمر من باب جلب المصالح، ودفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح...
ومن خلال هذا التدقيق المبني على القواعد الفقهية والأصولية يتَّضح لنا بجلاءٍ منهجَ علمائنا - رحمهم الله تعالى - في استنباط الأحكام الشرعية والاستدلال عليها بالقواعد الأصولية والفقهية.
البريد الإلكتروني:- ابو ابتسامعضو ذهبي
- :
عدد الرسائل : 924
العمر : 57
العمل/الترفيه : ساعي لرضا الله
المزاج : صبور
تاريخ التسجيل : 25/10/2011
رد: التعريف بالإمام الونشريسي حياته وعصره
السبت 05 سبتمبر 2015, 19:46
جزاك الله خيرا اخي قايش.
- حصــ البرنامج الغني عن التعريف ***microsoft Office 2011***ـريا في منتديات الونشريسي التعليمية
- حصـــــــــ الماسنجر العملاق و الغني عن التعريف Windows Live Messenger 2011 15.4.3508.1109 باخر اصدار بالرابط الصحيح لماي ايجي بحجم 208 ميجا بايت و على اكثر من سيرفر ـريا في منتديات الونشريسي التعليمية
- من تركه صلاتهليس له نور في حياته
- من منّا نال السعادة كاملة في حياته؟؟؟؟
- التعريف
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى