- SAAD ABDELKADERعضو جديد
- :
عدد الرسائل : 154
تاريخ التسجيل : 21/12/2007
في سوسيولوجيا الفشل الدراسي2/1
الخميس 17 يناير 2008, 18:06
في سوسيولوجيا الفشل الدراسي2/1
لنبدأ من سؤال في الماهية، ما هو الفشل الدراسي؟ هل هو نتاج عوامل ذاتية ترتبط بالفرد وبنيته النفسية وعدم قدرته على التفاعل مع ما تقدمه المدرسة؟ أم هو نتاج عملية معقدة يصعب الحسم في أمر علتها ويصعب إرجاعها إلى عوامل محددة، بما هي ظاهرة إنسانية؟ وما هي المقاربات الكفيلة بالوقوف على بعض جوانب الظاهرة؟ وكيف يشكل فهم الفشل الدراسي محطة مركزية في فهم الفشل الاجتماعي والمهني؟
تلك بعض الأسئلة التي سنحاول مقاربتها اعتماداً على تصور تمهيدي، قوامه أن الفشل الدراسي باعتباره ظاهرة تربوية إنسانية معقدة، لا يمكن القبض على جميع جوانبها في غياب مقاربة تكاملية، تأخذ بعين الاعتبار مختلف التخصصات، لأن أي مقاربة أحادية البعد لا يمكن إلا أن تحكم على نفسها بالقصور.
ومن هذا المنظور، فان حدود هذه الورقة لا تسمح بالإحاطة بجميع مناحي أشكال الفشل الدراسي، حيث أنها تخضع منهجياً وعن قصد لتأطير يندرج ضمن سوسيولوجيا التربية التي تجد في مقاربة إعادة الإنتاج خلفيتها النظرية، عبر استعراض رؤية هذه المقاربات وكيفية تفسيرها للفشل الدراسي، من خلال النظر إلى النظام التعليمي من الداخل، والتركيز على البعد الثقافي لدور المدرسة في إنتاج الفشل وترويجه، وثمة دور إسهامي لكل من التناقض الكامن بين ثقافة الآباء والأبناء من جهة، ولثقافة المسيطرين من جهة أخرى، حيث كلاهما يسهم بدوره في إنتاج مختلف أشكال الفشل الدراسي، وفي التأثير على الفرد وعلى مكانته السوسيومهنية.
ما هو الفشل الدراسي؟
يعرف معجم علوم التربية1 الفشل الدراسي من منطلقات متعددة، ويطلق عليه تعاريف وتسميات نذكر منها:
التخلف الدراسي صفة للتلاميذ الذين يكون تحصيلهم الدراسي أقل من مستوى أقرانهم، أو يكون مستواهم التحصيلي أقل من نسبة ذكائهم.
المتخلف دراسياً هو ذلك الذي ترتفع نسبة ذكائه على 70 درجة، وتنخفض عن 90 درجة، أي المستوى الأعلى لضعاف العقول.
التعثر الدراسي فارق سالب بين الأهداف المتوخاة من الفعل التربوي والنتائج المحققة فعلياً، كما يتجلى في المجال العقلي المعرفي، أو الوجداني الحسي الحركي، وترجع أسبابه إلى معطيات متفاعلة ومتفارقة من مثل مواصفات التلميذ، أو عوامل المحيط، أو سيرورة الفعل التربوي. ويتطلب هذا الفارق إجراءات تصحيحية لتقليصه بأساليب قد تكون بيداغوجية أو غير بيداغوجية... وبهذا المعنى، فإن التعثر الدراسي هو ذلك الفارق الملاحظ بواسطة أدوات القياس بين أهداف التعليم وبين النتائج الفعلية التي توصل لها التلميذ.
الوقوف على تعاريف الفشل الدراسي على اختزاليتها تحيل على مستويات عدة، ففي الوقت الذي يحصره التعريف الأول في خلل في ذكاء الطفل مقارنة مع أقرانه، يعزوه الثاني إلى ضعاف العقول، فيما يرجعه الثالث إلى تفاعل مجموعة من المعطيات من قبيل مواصفات التلميذ، أو عوامل المحيط، أو سيرورة الفعل التربوي ونتائجه.
تقدم هذه التعاريف على اختلاف مستوياتها الفشل الدراسي في ارتداد إلى حقل اشتغال معين، يتراوح بين البعد السيكولوجي والسوسيولوجي، مروراً بالمقاربة التفاعلية ذات البعد التكاملي.
لكن بعيداً عن لغة التعاريف المعجمية، يمكن التساؤل: إلى أي حد تمثل الجوانب النفسية عوامل يرتد إليها الفشل الدراسي؟ وألا يشكل هذا التأويل أيديولوجية حاول علم النفس جاهداً التخلص منها؟ وألا يشكل عزو الفشل الدراسي إلى "ضعف في العقول" نظرة اختزالية تسقط من حسبانها مختلف العوامل المؤثرة في الظاهرة باعتبارها إنسانية معقدة؟ وكيف يشكل الفشل الدراسي فشلاً اجتماعياً يقود الفرد إلى فشل سوسيومهني؟
يقول ميشيل لوبرو2 "إن الطفل لا يكف عن موقعة نفسه اجتماعياً وثقافياً، ولهذا يمكن القول إن الطفل كما الراشد كذلك وهو يقرأ.. يكتب.. يفكر.. ينتج إنما يسعى دائماً إلى تعيين وضعه في الفضاء الاجتماعي والثقافي". وبهذا المعنى تصبح المدرسة وهي تحكم على أحد الأطفال بالفشل الدراسي مؤسسة تموقع الأفراد وتصنفهم بحسب درجة قبولهم أو رفضهم لمنتوجاتها؛ لأنها كما يقول جورج لاباسد3 "ليست مجرد وسيط محايد لنشر المعرفة والقيم، أو مكان يتم فيه الاتصال ما بين المعرفة والطلاب، بل هي فوق ذلك كله تعبير عن الأيديولوجيا السائدة وإحدى الأدوات المهمة لنشرها".
وانطلاقاً من هذا التحديد لدور المدرسة باعتبارها وسيطاً غير محايد لنشر المعرفة، يمكن التساؤل كيف يشكل الفشل الدراسي أداة من أدوات الضبط، وفرضاً لتعسف ثقافي بلغة بورديو، فالطفل الذي يفشل دراسياً ليس ذلك الذي لا يكتسب معرفة معينة يمكن أن يستفيد منها:"إنه كذلك طفل يتعرض لإقصاء اجتماعي يطبع حياته ويؤثر على تاريخه".4 إنه، إذن، ميكانيزم من ميكانيزمات الضبط التي تعتمدها المؤسسة التربوية باعتبارها أحدى أجهزة القمع الرمزي حسب تعبير التوسير "إنها بهذا المعنى محدثة لتمرير مجموعة من المعارف التي لا تستطيع الأسرة تمريرها بشكل عفوي".5 وهذا الفهم يقود إلى تساؤل مركزي قوامه كيف يشكل الفشل الدراسي نتاجاً لوظيفة المدرسة؟
وظيفة المدرسة والفشل الدراسي
دشن كتاب الورثة لصاحبيه بورديو وباسرون مرحلة جديدة في الأبحاث المتعلقة بالأنظمة التعليمية، فلقد أعاد النظر في المقاربات السائدة آنذاك، والمرتكزة على فهم النظام التربوي من الخارج، حيث أصبحت إشكاليات المدرسة من قبيل عدم تكافؤ الفرص، ومحتوى البرامج، واللغة المستعملة، والعلاقات التربوية، إشكاليات داخلية، وأصبحت بالتالي الأسئلة من مثل ما الميكانيزمات المتحكمة في عدم تكافؤ الفرص وغيرها تجد لها أجوبة في دراسة الميكانيزمات الداخلية للنظام التربوي في أبعاده العلائقية.
1. تعمل المدرسة حسب بورديو وباسرون وفق تقسيم المجتمع إلى طبقات، وهي بذلك تكرس وتعيد وتحافظ على الوضع القائم الذي أنتجها، يقول:6 "كل فعل بيداغوجي هو موضوعياً عنف رمزي، ومنذ البداية أي قبل ولوجهم(الأطفال) المدرسة غير متساويين أمام المدرسة والثقافة؛ أي غير متساويين في الرأسمال الرمزي، باعتباره تلك المهارات اللغوية والقيمية التي تسهل عملية التلاؤم والتواصل التربوي". ويؤدي هذا الوضع إلى إعادة الإنتاج من خلال سعي المدرسة إلى الحفاظ على وظيفتها في إعادة إنتاج المعايير الثقافية واللغوية، وهي حسب بورديو دائماً معايير الطبقة السائدة، إنها أقرب إلى لغة المسيطرين.
ومن أجل توضيح ذلك، عمد بورديو إلى نحت معجم مفاهيمي جديد يمكن تلخيصه إلى جانب الرأسمال الرمزي في الايتوس7 والأبيتوس؛ ويعني الأول ذلك النظام القمعي المستبطن بعمق، الذي يشتغل لصالح الطبقات المسيطرة، ما يفرز الأبيتوس كتهيؤ ذهني واستعداد داخلي لدى الأفراد لقبول السيطرة، وهو ما يسعى النظام التربوي إلى ضمانه من خلال تعسف ثقافي يعيشه طفل الطبقات الدنيا، حسب بورديو، بفعل ما تفرضه ثقافة المدرسة من عزلة، فيما يستفيد طفل المسيطرين من الاستمرارية والتكامل بين ثقافته وثقافة المدرسة، ما يسهل للثاني عملية التوافق، ويحرم طفل الطبقات الدنيا من ذلك ليحكم عليه بالاغتراب8 والانفصال عن ما تقدمه المدرسة من منتوج. كما يؤدي في الوقت نفسه إلى اغترابهم عن الطبيعة وعن ذواتهم، وذلك بفعل اشتغال النظام التربوي خارج الإطار المرجعي الثقافي لطفل الطبقات الدنيا، فيصبح ما تروجه المدرسة شيئاً خارجياً عن الطفل، وليس جزءاً من طبيعته، ما يولد لديه شعوراً بالبؤس وعدم الرضا والفشل المسبق. فطفل الطبقة الدنيا يعيش قطيعة وتناقضاً بين ثقافته وثقافة المدرسة، ومن ثمة فإن توافقه يغدو، حسب (perrenaud)،9 معقداً ما دام التوافق مشروطاً بعملتي الانحلال من الثقافة (déculturation)، ثم ثانياً بعملية المثاقفة (acculturation).
تحصر أطروحة بورديو الأهداف الضمنية للمدرسة في خدمة الطبقة المسيطرة، ومن ثمة فإن النجاح المدرسي يكون من نصيب هذه الأخيرة، في حين أن الفشل الدراسي الناتج عن انعدام التكامل بين المدرسة والطبقة الدنيا يكون من نصيب أبنائها.
2. يعتبر الوسط الأسري عاملاً أساسياً ومسؤولاً عن التوافق الدراسي للطفل، ويقوم هذا الاتجاه على اعتبار أساسه: إن الوسط الأسري المنخفض وسط جاف ومحبط ولا يساعد على النمو، وبالتالي يؤدي إلى معوقات، في حين أن المنحدرين من أوساط محظوظة يستفيدون من هذا العامل، ويعزو هذا الاتجاه اللامساواة والفشل الدراسي إلى أسباب خارجية عن المؤسسة المدرسية.
يقول بيرنو:10 "نعرف جيداً أن كل المتعلمين ينحدرون من ثقافة هي ثقافة أسرهم وأحيائهم، ومجموعات الانتماء وكذا الطبقات الاجتماعية، إنهم كل حسب انتمائهم، ورثة، غير أن السوق المدرسي (le marché scolaire) يجعل من بعض الإرث يزن ذهباً، في حين يشكل إرث آخر عملة رخيصة. إن الأطفال الذين نموا بين الكتب وفي خضم نقاشات ثقافية لا يحسون بالاغتراب عندما يلجون المدرسة، وهم ليسوا مغتربين، إلا من الأشكال الخاصة للفعل التربوي، وللعلاقات التربوية. أما أولئك الذين ترعرعوا في مساحات جرداء وأمام تلفزيون تفصلهم عنه مسافات، فإنه عليهم قطع مسافات طويلة ما دام لا شيء يتحدث إليهم لا الأشياء ولا الأشخاص ولا الأنشطة".
يلتقي إذن بيرنو مع بورديو في اعتبار الثقافة المكتسبة في الوسط الأسري محدداً لتوافق الطفل مع محيطه المدرسي الجديد أو عدم توافقه، كما أن الثقافة المدرسية تحدد نوع المكانة الاجتماعية التي يشغلها الفرد، ما يفرز نوعاً من العلاقة المتبادلة بين المدرسة والولوج إلى عالم الشغل. وفي هذا الصدد، يقول ميشيل لوبرو:11 "إن المستوى الاجتماعي للآباء يحدد بدوره المستوى المدرسي والثقافي للأبناء، وهذا الأخير يحدد بدوره المستوى الاجتماعي لهؤلاء أنفسهم: إن الثعبان يعض ذيله".
3. إن اختلاف الإرث الثقافي بين الفئات الاجتماعية لا يعني أن ما يوجد في الثقافة الشعبية هو عائق، بل إن المدرسة لا تقبله ولا تتعامل معه مفضلة إرث الطبقات الوسطى.
وقد أوضح بيرتلو بـ"أن العائق الثقافي ليس سوى الوجه الآخر لما يسميه بورديو بالإرث الثقافي، لكن كيف تؤثر ثقافة المدرسة النخبوية في إنتاج الفشل الدراسي؟".
يعرف علماء الاجتماع ثقافة النخبة باعتبارها "ثقافة الأشخاص الأكثر تعلماً، إنها ثقافة تنبع من أمهات الكتب التي تؤسس في الأطفال التقليد الثقافي للطبقات الراقية، من قبيل زيارة المسارح، والتردد على المكتبات، وغيرها من الأنشطة".
إن الثقافة بهذا المعنى فعالية إنسانية لا تنفصل عن شروط إنتاجها، ومن ثمة فإن النخبة ليست سوى ثقافة ضمن ثقافات أخرى، وهو ما يطرح إشكالاً معقداً بخصوص إمكانية وضع حدود فاصلة بين الثقافات. إن الأمر صار صعباً على خلاف الماضي، فقد كان بالإمكان وضع حدود فاصلة بين الثقافات، وبالتالي تحديد هذه الثقافة بكونها زراعية أو عمالية أو بدوية، أما الآن، فإن وسائل الإعلام أحرقت الأوراق وأنهت الحدود الفاصلة".
4. إذا كانت مقاربة إعادة الإنتاج بمختلف تياراتها عمدت إلى دراسة المدرسة باعتبارها علبة سوداء حسب تعبير (Foquin) التي من خلالها تتم إعادة الإنتاج الاجتماعي واستمرارية الثقافة المسيطرة، فإن منظري الحراك الاجتماعي اقتصروا على دراسة المدرسة من الخارج، محاولين الحد من حماس الخطاب الأيديولوجي والسياسي الذي ساد خلال السبعينيات و الثمانينيات.
وهكذا يصبح الفشل الدراسي وعدم تكافؤ الفرص الاجتماعية "نتيجة مجموعة معقدة من المحددات التي لا يمكن تصورها منعزلة بعضها عن البعض، وإنما يجب التعامل معها كمجموعة تشكل نسقاً".12
يقدم رايمون بودون نموذجاً لهذه المقاربة، حيث انطلق من معطيات عديدة حصرها في شكل من البناء العلائقي يتمتع بدرجة مقبولة من العمومية ويستجيب لمعايير التكميم والبساطة، وبنى عليها نموذجاً مركباً للعمل على صيغة فرضيات بسيطة على الشكل التالي: المنشأ العائلي, ومستوى الدراسة، والوضع الاجتماعي.
وانطلاقاً من علاقة العناصر الثلاثة، قدم نموذجاً لمسارات التمدرس، والتراتبية الاجتماعية، فعدم تكافؤ الفرص، حسب بودون، تنجم بالضرورة عن التقاء نسقين: نسق المواقع الاجتماعية ونسق المسارات الدراسية، ليخلص إلى أن اللامساواة إذا كانت ناتجة عن التراتبية الاجتماعية والهرمية المدرسية، فإن تركيبهما يزيد ويضاعف من اللامساواة، كما أن تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية لا يقضي على اللامساواة الاجتماعية.
ولمعرفة أثر المجتمع التراتبي على تكافؤ الفرص، فإن بودون يقدم نموذج أفراد مختلفين في مواقعهم، حيث يعتبر أن موقعهم يجبرهم على القيام باختبارات وقرارات متباينة في مختلف مراحل التوجيه المدرسي، لنحصل من جهة على إنتاج بصورة مبنية، ومن جهة أخرى على ظاهرة إضافية لا استمرار الأفراد في موقعهم. وتبعاً لنفس النموذج التفسيري النسقي المبني على عدد من الظواهر الإحصائية (منافذ الشغل, الدراسة, والمواقع، والمعطيات السوسيولوجية) المولدة لعدم تكافؤ الفرص، يدرج بودون تلك العلاقة القائمة بين الهيمنة وبنية الجدارة والاستحقاق في الحراك الاجتماعي؛ أي أن كفاءات الأفراد ناتجة عن منشئهم الاجتماعي المرتفع، في حين أن بنية الاستحقاق تعني أن مستوى الدراسة هو الذي يحدد الموقع الاجتماعي للأفراد.
يتــــــــــبع.......
لنبدأ من سؤال في الماهية، ما هو الفشل الدراسي؟ هل هو نتاج عوامل ذاتية ترتبط بالفرد وبنيته النفسية وعدم قدرته على التفاعل مع ما تقدمه المدرسة؟ أم هو نتاج عملية معقدة يصعب الحسم في أمر علتها ويصعب إرجاعها إلى عوامل محددة، بما هي ظاهرة إنسانية؟ وما هي المقاربات الكفيلة بالوقوف على بعض جوانب الظاهرة؟ وكيف يشكل فهم الفشل الدراسي محطة مركزية في فهم الفشل الاجتماعي والمهني؟
تلك بعض الأسئلة التي سنحاول مقاربتها اعتماداً على تصور تمهيدي، قوامه أن الفشل الدراسي باعتباره ظاهرة تربوية إنسانية معقدة، لا يمكن القبض على جميع جوانبها في غياب مقاربة تكاملية، تأخذ بعين الاعتبار مختلف التخصصات، لأن أي مقاربة أحادية البعد لا يمكن إلا أن تحكم على نفسها بالقصور.
ومن هذا المنظور، فان حدود هذه الورقة لا تسمح بالإحاطة بجميع مناحي أشكال الفشل الدراسي، حيث أنها تخضع منهجياً وعن قصد لتأطير يندرج ضمن سوسيولوجيا التربية التي تجد في مقاربة إعادة الإنتاج خلفيتها النظرية، عبر استعراض رؤية هذه المقاربات وكيفية تفسيرها للفشل الدراسي، من خلال النظر إلى النظام التعليمي من الداخل، والتركيز على البعد الثقافي لدور المدرسة في إنتاج الفشل وترويجه، وثمة دور إسهامي لكل من التناقض الكامن بين ثقافة الآباء والأبناء من جهة، ولثقافة المسيطرين من جهة أخرى، حيث كلاهما يسهم بدوره في إنتاج مختلف أشكال الفشل الدراسي، وفي التأثير على الفرد وعلى مكانته السوسيومهنية.
ما هو الفشل الدراسي؟
يعرف معجم علوم التربية1 الفشل الدراسي من منطلقات متعددة، ويطلق عليه تعاريف وتسميات نذكر منها:
التخلف الدراسي صفة للتلاميذ الذين يكون تحصيلهم الدراسي أقل من مستوى أقرانهم، أو يكون مستواهم التحصيلي أقل من نسبة ذكائهم.
المتخلف دراسياً هو ذلك الذي ترتفع نسبة ذكائه على 70 درجة، وتنخفض عن 90 درجة، أي المستوى الأعلى لضعاف العقول.
التعثر الدراسي فارق سالب بين الأهداف المتوخاة من الفعل التربوي والنتائج المحققة فعلياً، كما يتجلى في المجال العقلي المعرفي، أو الوجداني الحسي الحركي، وترجع أسبابه إلى معطيات متفاعلة ومتفارقة من مثل مواصفات التلميذ، أو عوامل المحيط، أو سيرورة الفعل التربوي. ويتطلب هذا الفارق إجراءات تصحيحية لتقليصه بأساليب قد تكون بيداغوجية أو غير بيداغوجية... وبهذا المعنى، فإن التعثر الدراسي هو ذلك الفارق الملاحظ بواسطة أدوات القياس بين أهداف التعليم وبين النتائج الفعلية التي توصل لها التلميذ.
الوقوف على تعاريف الفشل الدراسي على اختزاليتها تحيل على مستويات عدة، ففي الوقت الذي يحصره التعريف الأول في خلل في ذكاء الطفل مقارنة مع أقرانه، يعزوه الثاني إلى ضعاف العقول، فيما يرجعه الثالث إلى تفاعل مجموعة من المعطيات من قبيل مواصفات التلميذ، أو عوامل المحيط، أو سيرورة الفعل التربوي ونتائجه.
تقدم هذه التعاريف على اختلاف مستوياتها الفشل الدراسي في ارتداد إلى حقل اشتغال معين، يتراوح بين البعد السيكولوجي والسوسيولوجي، مروراً بالمقاربة التفاعلية ذات البعد التكاملي.
لكن بعيداً عن لغة التعاريف المعجمية، يمكن التساؤل: إلى أي حد تمثل الجوانب النفسية عوامل يرتد إليها الفشل الدراسي؟ وألا يشكل هذا التأويل أيديولوجية حاول علم النفس جاهداً التخلص منها؟ وألا يشكل عزو الفشل الدراسي إلى "ضعف في العقول" نظرة اختزالية تسقط من حسبانها مختلف العوامل المؤثرة في الظاهرة باعتبارها إنسانية معقدة؟ وكيف يشكل الفشل الدراسي فشلاً اجتماعياً يقود الفرد إلى فشل سوسيومهني؟
يقول ميشيل لوبرو2 "إن الطفل لا يكف عن موقعة نفسه اجتماعياً وثقافياً، ولهذا يمكن القول إن الطفل كما الراشد كذلك وهو يقرأ.. يكتب.. يفكر.. ينتج إنما يسعى دائماً إلى تعيين وضعه في الفضاء الاجتماعي والثقافي". وبهذا المعنى تصبح المدرسة وهي تحكم على أحد الأطفال بالفشل الدراسي مؤسسة تموقع الأفراد وتصنفهم بحسب درجة قبولهم أو رفضهم لمنتوجاتها؛ لأنها كما يقول جورج لاباسد3 "ليست مجرد وسيط محايد لنشر المعرفة والقيم، أو مكان يتم فيه الاتصال ما بين المعرفة والطلاب، بل هي فوق ذلك كله تعبير عن الأيديولوجيا السائدة وإحدى الأدوات المهمة لنشرها".
وانطلاقاً من هذا التحديد لدور المدرسة باعتبارها وسيطاً غير محايد لنشر المعرفة، يمكن التساؤل كيف يشكل الفشل الدراسي أداة من أدوات الضبط، وفرضاً لتعسف ثقافي بلغة بورديو، فالطفل الذي يفشل دراسياً ليس ذلك الذي لا يكتسب معرفة معينة يمكن أن يستفيد منها:"إنه كذلك طفل يتعرض لإقصاء اجتماعي يطبع حياته ويؤثر على تاريخه".4 إنه، إذن، ميكانيزم من ميكانيزمات الضبط التي تعتمدها المؤسسة التربوية باعتبارها أحدى أجهزة القمع الرمزي حسب تعبير التوسير "إنها بهذا المعنى محدثة لتمرير مجموعة من المعارف التي لا تستطيع الأسرة تمريرها بشكل عفوي".5 وهذا الفهم يقود إلى تساؤل مركزي قوامه كيف يشكل الفشل الدراسي نتاجاً لوظيفة المدرسة؟
وظيفة المدرسة والفشل الدراسي
دشن كتاب الورثة لصاحبيه بورديو وباسرون مرحلة جديدة في الأبحاث المتعلقة بالأنظمة التعليمية، فلقد أعاد النظر في المقاربات السائدة آنذاك، والمرتكزة على فهم النظام التربوي من الخارج، حيث أصبحت إشكاليات المدرسة من قبيل عدم تكافؤ الفرص، ومحتوى البرامج، واللغة المستعملة، والعلاقات التربوية، إشكاليات داخلية، وأصبحت بالتالي الأسئلة من مثل ما الميكانيزمات المتحكمة في عدم تكافؤ الفرص وغيرها تجد لها أجوبة في دراسة الميكانيزمات الداخلية للنظام التربوي في أبعاده العلائقية.
1. تعمل المدرسة حسب بورديو وباسرون وفق تقسيم المجتمع إلى طبقات، وهي بذلك تكرس وتعيد وتحافظ على الوضع القائم الذي أنتجها، يقول:6 "كل فعل بيداغوجي هو موضوعياً عنف رمزي، ومنذ البداية أي قبل ولوجهم(الأطفال) المدرسة غير متساويين أمام المدرسة والثقافة؛ أي غير متساويين في الرأسمال الرمزي، باعتباره تلك المهارات اللغوية والقيمية التي تسهل عملية التلاؤم والتواصل التربوي". ويؤدي هذا الوضع إلى إعادة الإنتاج من خلال سعي المدرسة إلى الحفاظ على وظيفتها في إعادة إنتاج المعايير الثقافية واللغوية، وهي حسب بورديو دائماً معايير الطبقة السائدة، إنها أقرب إلى لغة المسيطرين.
ومن أجل توضيح ذلك، عمد بورديو إلى نحت معجم مفاهيمي جديد يمكن تلخيصه إلى جانب الرأسمال الرمزي في الايتوس7 والأبيتوس؛ ويعني الأول ذلك النظام القمعي المستبطن بعمق، الذي يشتغل لصالح الطبقات المسيطرة، ما يفرز الأبيتوس كتهيؤ ذهني واستعداد داخلي لدى الأفراد لقبول السيطرة، وهو ما يسعى النظام التربوي إلى ضمانه من خلال تعسف ثقافي يعيشه طفل الطبقات الدنيا، حسب بورديو، بفعل ما تفرضه ثقافة المدرسة من عزلة، فيما يستفيد طفل المسيطرين من الاستمرارية والتكامل بين ثقافته وثقافة المدرسة، ما يسهل للثاني عملية التوافق، ويحرم طفل الطبقات الدنيا من ذلك ليحكم عليه بالاغتراب8 والانفصال عن ما تقدمه المدرسة من منتوج. كما يؤدي في الوقت نفسه إلى اغترابهم عن الطبيعة وعن ذواتهم، وذلك بفعل اشتغال النظام التربوي خارج الإطار المرجعي الثقافي لطفل الطبقات الدنيا، فيصبح ما تروجه المدرسة شيئاً خارجياً عن الطفل، وليس جزءاً من طبيعته، ما يولد لديه شعوراً بالبؤس وعدم الرضا والفشل المسبق. فطفل الطبقة الدنيا يعيش قطيعة وتناقضاً بين ثقافته وثقافة المدرسة، ومن ثمة فإن توافقه يغدو، حسب (perrenaud)،9 معقداً ما دام التوافق مشروطاً بعملتي الانحلال من الثقافة (déculturation)، ثم ثانياً بعملية المثاقفة (acculturation).
تحصر أطروحة بورديو الأهداف الضمنية للمدرسة في خدمة الطبقة المسيطرة، ومن ثمة فإن النجاح المدرسي يكون من نصيب هذه الأخيرة، في حين أن الفشل الدراسي الناتج عن انعدام التكامل بين المدرسة والطبقة الدنيا يكون من نصيب أبنائها.
2. يعتبر الوسط الأسري عاملاً أساسياً ومسؤولاً عن التوافق الدراسي للطفل، ويقوم هذا الاتجاه على اعتبار أساسه: إن الوسط الأسري المنخفض وسط جاف ومحبط ولا يساعد على النمو، وبالتالي يؤدي إلى معوقات، في حين أن المنحدرين من أوساط محظوظة يستفيدون من هذا العامل، ويعزو هذا الاتجاه اللامساواة والفشل الدراسي إلى أسباب خارجية عن المؤسسة المدرسية.
يقول بيرنو:10 "نعرف جيداً أن كل المتعلمين ينحدرون من ثقافة هي ثقافة أسرهم وأحيائهم، ومجموعات الانتماء وكذا الطبقات الاجتماعية، إنهم كل حسب انتمائهم، ورثة، غير أن السوق المدرسي (le marché scolaire) يجعل من بعض الإرث يزن ذهباً، في حين يشكل إرث آخر عملة رخيصة. إن الأطفال الذين نموا بين الكتب وفي خضم نقاشات ثقافية لا يحسون بالاغتراب عندما يلجون المدرسة، وهم ليسوا مغتربين، إلا من الأشكال الخاصة للفعل التربوي، وللعلاقات التربوية. أما أولئك الذين ترعرعوا في مساحات جرداء وأمام تلفزيون تفصلهم عنه مسافات، فإنه عليهم قطع مسافات طويلة ما دام لا شيء يتحدث إليهم لا الأشياء ولا الأشخاص ولا الأنشطة".
يلتقي إذن بيرنو مع بورديو في اعتبار الثقافة المكتسبة في الوسط الأسري محدداً لتوافق الطفل مع محيطه المدرسي الجديد أو عدم توافقه، كما أن الثقافة المدرسية تحدد نوع المكانة الاجتماعية التي يشغلها الفرد، ما يفرز نوعاً من العلاقة المتبادلة بين المدرسة والولوج إلى عالم الشغل. وفي هذا الصدد، يقول ميشيل لوبرو:11 "إن المستوى الاجتماعي للآباء يحدد بدوره المستوى المدرسي والثقافي للأبناء، وهذا الأخير يحدد بدوره المستوى الاجتماعي لهؤلاء أنفسهم: إن الثعبان يعض ذيله".
3. إن اختلاف الإرث الثقافي بين الفئات الاجتماعية لا يعني أن ما يوجد في الثقافة الشعبية هو عائق، بل إن المدرسة لا تقبله ولا تتعامل معه مفضلة إرث الطبقات الوسطى.
وقد أوضح بيرتلو بـ"أن العائق الثقافي ليس سوى الوجه الآخر لما يسميه بورديو بالإرث الثقافي، لكن كيف تؤثر ثقافة المدرسة النخبوية في إنتاج الفشل الدراسي؟".
يعرف علماء الاجتماع ثقافة النخبة باعتبارها "ثقافة الأشخاص الأكثر تعلماً، إنها ثقافة تنبع من أمهات الكتب التي تؤسس في الأطفال التقليد الثقافي للطبقات الراقية، من قبيل زيارة المسارح، والتردد على المكتبات، وغيرها من الأنشطة".
إن الثقافة بهذا المعنى فعالية إنسانية لا تنفصل عن شروط إنتاجها، ومن ثمة فإن النخبة ليست سوى ثقافة ضمن ثقافات أخرى، وهو ما يطرح إشكالاً معقداً بخصوص إمكانية وضع حدود فاصلة بين الثقافات. إن الأمر صار صعباً على خلاف الماضي، فقد كان بالإمكان وضع حدود فاصلة بين الثقافات، وبالتالي تحديد هذه الثقافة بكونها زراعية أو عمالية أو بدوية، أما الآن، فإن وسائل الإعلام أحرقت الأوراق وأنهت الحدود الفاصلة".
4. إذا كانت مقاربة إعادة الإنتاج بمختلف تياراتها عمدت إلى دراسة المدرسة باعتبارها علبة سوداء حسب تعبير (Foquin) التي من خلالها تتم إعادة الإنتاج الاجتماعي واستمرارية الثقافة المسيطرة، فإن منظري الحراك الاجتماعي اقتصروا على دراسة المدرسة من الخارج، محاولين الحد من حماس الخطاب الأيديولوجي والسياسي الذي ساد خلال السبعينيات و الثمانينيات.
وهكذا يصبح الفشل الدراسي وعدم تكافؤ الفرص الاجتماعية "نتيجة مجموعة معقدة من المحددات التي لا يمكن تصورها منعزلة بعضها عن البعض، وإنما يجب التعامل معها كمجموعة تشكل نسقاً".12
يقدم رايمون بودون نموذجاً لهذه المقاربة، حيث انطلق من معطيات عديدة حصرها في شكل من البناء العلائقي يتمتع بدرجة مقبولة من العمومية ويستجيب لمعايير التكميم والبساطة، وبنى عليها نموذجاً مركباً للعمل على صيغة فرضيات بسيطة على الشكل التالي: المنشأ العائلي, ومستوى الدراسة، والوضع الاجتماعي.
وانطلاقاً من علاقة العناصر الثلاثة، قدم نموذجاً لمسارات التمدرس، والتراتبية الاجتماعية، فعدم تكافؤ الفرص، حسب بودون، تنجم بالضرورة عن التقاء نسقين: نسق المواقع الاجتماعية ونسق المسارات الدراسية، ليخلص إلى أن اللامساواة إذا كانت ناتجة عن التراتبية الاجتماعية والهرمية المدرسية، فإن تركيبهما يزيد ويضاعف من اللامساواة، كما أن تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية لا يقضي على اللامساواة الاجتماعية.
ولمعرفة أثر المجتمع التراتبي على تكافؤ الفرص، فإن بودون يقدم نموذج أفراد مختلفين في مواقعهم، حيث يعتبر أن موقعهم يجبرهم على القيام باختبارات وقرارات متباينة في مختلف مراحل التوجيه المدرسي، لنحصل من جهة على إنتاج بصورة مبنية، ومن جهة أخرى على ظاهرة إضافية لا استمرار الأفراد في موقعهم. وتبعاً لنفس النموذج التفسيري النسقي المبني على عدد من الظواهر الإحصائية (منافذ الشغل, الدراسة, والمواقع، والمعطيات السوسيولوجية) المولدة لعدم تكافؤ الفرص، يدرج بودون تلك العلاقة القائمة بين الهيمنة وبنية الجدارة والاستحقاق في الحراك الاجتماعي؛ أي أن كفاءات الأفراد ناتجة عن منشئهم الاجتماعي المرتفع، في حين أن بنية الاستحقاق تعني أن مستوى الدراسة هو الذي يحدد الموقع الاجتماعي للأفراد.
يتــــــــــبع.......
- بدرالدين66عضو مشارك
- :
عدد الرسائل : 270
العمر : 58
العمل/الترفيه : معلم
المزاج : عادي
تاريخ التسجيل : 23/01/2008
رد: في سوسيولوجيا الفشل الدراسي2/1
الجمعة 25 يناير 2008, 21:50
إن ما يسعى إليه النظام التربوي هو ضمانه من خلال تعسف ثقافي يعيشه طفل الطبقات الدنيا، حسب بورديو، بفعل ما تفرضه ثقافة المدرسة من عزلة، فيما يستفيد طفل المسيطرين من الاستمرارية والتكامل بين ثقافته وثقافة المدرسة، ما يسهل للثاني عملية التوافق، ويحرم طفل الطبقات الدنيا من ذلك ليحكم عليه بالاغتراب والانفصال عن ما تقدمه المدرسة من منتوج. كما يؤدي في الوقت نفسه إلى اغترابهم عن الطبيعة وعن ذواتهم، وذلك بفعل اشتغال النظام التربوي خارج الإطار المرجعي الثقافي لطفل الطبقات الدنيا، فيصبح ما تروجه المدرسة شيئاً خارجياً عن الطفل، وليس جزءاً من طبيعته، ما يولد لديه شعوراً بالبؤس وعدم الرضا والفشل المسبق
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى